مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و الحمد لله دائما و أبدا في كل فعل و قول ومقصد فهو الواهب و المنعم على خلقه بالكتابة في سبيل إعلاء كلمته و الدعوة إليه و تعريف الناس بفقهه و شرعه و سنة رسوله محمداً - صلى الله عليه وآله و سلم - إصلاحا لشأنهم و إحقاقا للحق و العدل في معاملاتهم المتعددة بتعدد صور انتقالها فمنها ما يهدف إلى تحقيق المصلحة كالبيع و الإيجار و منها ما يهدف إلى التبرع كالوصية و الهبة.
فالهبة من العقود الناقلة للملكية الملزمة لجانب واحد إلا أن هناك استثناء حين تصبح ملزمة للطرفين و ذلك عندما تكون بعوض. و الهبة تحتاج إلى نظرة تخصصية من حيث فهم موضوعها سواء من الناحية الشرعية أو من الناحية القانونية.فهي ذات أهمية بالغة في تقوية الروابط الإنسانية المبنية على أساس البر لقوله تعالى في الآية92 آل عمران{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، و ا لرحمة و الإحسان لقوله - صلى الله عليه و سلم-:" جبلت النفوس على حب من أحسن إليها" و تكريم الإنسان لأخيه الإنسان، خاصة و أننا نشهد في عصرنا الحالي تفكك الروابط الإنسانية و تشتتها و اتسام العلاقات بين الناس بالفتور.
كما أن لها أهمية ملفتة في الحياة العلمية و القانونية فهي تصرف خطير، إذ يتطلب جرأة من الواهب للتنازل عن جزء من ماله قد يكون ذا تأثير كبير على وضعيته المالية بما قد يلحق ضررا بورثته كحرمانهم من الميراث.و قد ارتأينا أن هذا البحث جدير بالاهتمام و الدراسة لأن الهبة تشكل حدثا هاما في حياة الإنسان إذ أصبحت من أهم التصرفات القانونية الجاري العمل بها.بالإضافة إلى العرض الخاص الذي نتوخاه من هذه الدراسة ألا و هو تنمية الفكر و تزويده بجملة من المعارف فيما يخص الجانب الفقهي و القانوني في هذا الإطار ومن هنا تبادر إلى ذهننا مجموعة من الإشكاليات التي نراها ضرورية في موضوعنا هذا و من بينها:
هل المشرع الجزائري أخذ أحكام الهبة كلها من الشريعة الإسلامية أو لا ؟.
و إن كان قد أخذ من الفقه الإسلامي فهل اعتمد على كل المذاهب أو ركز على مذهب واحد؟.
و بما أن الهبة لها تأثير كبير على الحياة الأسرية فهل لها صلة عضوية بالأسرة؟.
و للإجابة على مجموع هذه الإشكاليات قسمنا بحثنا إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول : مفهوم الهبة.
الفصل الثاني : أركان عقد الهبة.
الفصل الثالث : أحكام عقد الهبة.
الفصل الأول مفهوم الهبة
المبحث الأول : تعـريـف الهـبــــة
المطلب الأول : تعريف الهبة في الفقه الإسلامي
الفرع الأول : تعريف الهبة لغة :
الهبة في اللغة هي التبرع و التفضل على الغير و لو بغير مال أي بما ينتفع به مطلقا سواء كان مال أو غير مال(1).مثلا هبة المال كهبة شخص لآخر فرسا أو سيارة أو دارا ، و مثال هبة غير المال كقول إنسان لآخر ليهب الله لك ولدا ، مع أن ولد ذلك الشخص حرا ليس بمال(2) ، لقوله تعالى: {فهب لي من لدنك وليا}(3) و قوله عز و جل{ يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور}(4)
و الهبة إذا كثرت يسمى صاحبها وهابا، و هو من أبنية المبالغة، و يقال: رجل وهاب ووهابة أي كثير الهبة(5(
الفرع الثاني: تعريف الهبة اصطلاحا
I. الهبة في المذهب الحنفي: و هي "تمليك العين بغير عوض"(6) أي أن كل شخص يملك عينا ملكا صحيحا يستطيع أن يهبها لغيره من دون عوض في الحال أو المستقبل أثناء حياته.
II. الهبة في المذهب المالكي: قسم المالكية الهبة إلى هبة لغير ثواب و هبة الثواب،
فالأولى هي:" تمليك من له التبرع ذاتا تنقل شرعا بلا عوض لأهل بصيغة أو ما يدل عليه"(7). أي أن الهبة تمنح من ذي أهلية خالي من عيوب الإرادة يريد بها وجه الشخص و مرضاة الله. أما الثانية فقد عرفها الإمام ابن عرفة:" عطية قصد بها عوض مالي" و هذا النوع من الهبة يعد بيعا من البيوع لاشتمالها على العوض.
(1) د. محمد كامل مرسي باشا، شرح القانون المدني الجديد، ج 5، العقود المسماة ، ص 16
(2) د. محمد بن أحمد تقية، دراسة عن الهبة في قانون الأسرة الجزائري مقارنة بأحكام الشريعة الإسلامية و القانون المقارن، الديوان الوطني للأشغال التربوية، الجزائر، الطبعة الأولى 2003، ص14
(3) سورة مريم، الآية - 05
–(4) سورة الشورى، الآية - 48 –(5) و (6) و (7) د. حسن محمد بودى، موانع الرجوع في الهبة في الفقه الإسلامي و القانون الوضعي، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2003 ، ص 19 ، 20 ، 21
III. الهبة في المذهب الشافعي: و هي: "تمليك العين بلا عوض حال الحياة تطوعا" و قد زاد الفقه الشافعي كلمة "تطوعا" عن الفقه الحنفي و ذلك لإخراج الواجبات كالزكاة و النذر والكفارات.
IV. الهبة في المذهب الحنبلي: عرف ابن قدامى الهبة بأنها:" الهبة و الصدقة و الهدية و العطية معانيها متقاربة و كلها تمليك في الحياة بغير عوض، و اسم العطية شامل لجميعها"، و كذلك الهبة و الصدقة و العطية متغايران، فإن النبي- صلى الله عليه و سلم- كان يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة و قال في اللحم الذي تصدق به على بريرة: " هو عليها صدقة و لنا هدية" فالظاهر أن من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة و من دفع إلى إنسان شيئا للتقرب إليه و المحبة له فهو هدية و جميع ذلك مندوب إليه و محثوث إليه فإن النبي- صلى الله عليه و سلم- قال: " تهادوا تحابوا"(1(و قد امتاز هذا التعريف عن التعريفات السابقة له بأنه أورد أن الهبة تقع في حياة كل من الواهب و الموهوب له و بذلك قد ميزها عن الوصية.
المطلب الثاني: تعريف الهبة الوارد في قانون الأسرة الجزائري
عرف المشرع الجزائري الهبة بنص المادة 202 قانون أسرة بقوله: " الهبة تمليك بلا عوض.و يجوز للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام يتوقف تمامها على إنجاز الشرط "
الفرع الأول: تحليل عبارات التعريف
1)الهبة تمليك:تعني هذه العبارة أن الهبة وسيلة تمليك تنتقل بواسطتها ملكية المال الموهوب من الواهب إلى الموهوب له، و عملية نقل الملكية ينتج عنها عنصران آخران و هما عنصر افتقار في جانب الواهب و عنصر اغتناء في جانب الموهوب له(2(
(1) المغني للإمام موفق الدين بن قدامى للإمام شمس الدين بن أبي عمر بن قدامى المقدسي، ج6، دار الكتاب للنشر و التوزيع، بيروت، ب.ت، ص246.
(2) أ. عبد الفتاح تقية، محاضرات في قانون الأحوال الشخصية لطلبة الكفاءة المهنية للمحاماة ، مطبعة دار هومة ، الجزائر، 2000، ص106
2) بلا عوض : معنى ذلك أن المال الموهوب كله أو جزؤه ينتقل إلى الموهوب له مجانا دون مقابل و يتلازم مع وجود عنصر آخر هو نية التبرع من الواهب بغية التودد و التحبب إلى الموهوب له أو بغية التقرب إلى وجه الله أو للأمرين معا.
3) ) يجوز للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام يتوقف تمامها على
إنجاز الشرط : حيث يمكن للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بعمل معين ، و إتمام هذا العمل حتى تنتقل إليه العين الموهوبة ، و هنا المشرع لم يقصد الهبة بعوض ، بل قصد الهبة الموقوفة على شرط.
الفرع الثاني : الملاحظات الواردة على هذا التعريف
يتضح من الوهلة الأولى أن المشرع الجزائري في نص المادة 202 ق.أ ، اعتبرت الهبة من التصرفات و ليست من العقود و لكن بالرجوع إلى نص المادة 206 ق.أ: تنعقد الهبة بالإيجاب و القبول و تتم الحيازة ، و مراعاة أحكام التوثيق في العقارات و الإجراءات الخاصة في المنقولات.
و إذا اختل أحد القيود السابقة بطلت الهبة."
نجد أن الهبة تنعقد بالإيجاب و القبول مما يجعلها كسائر العقود تنطبق عليها القواعد العامة التي تنظم العقود.
إن تعريف الهبة الوارد في نص المادة 202 ق.أ هو تعريف مأخوذ من الفقه
المالكي.
يستفاد من نص المادتين 206،202 ق،أ ، أن الهبة عقد بين الأحياء و ذلك أن الهبة عقد لابد أن يتوافق فيه الإيجاب و القبول و بالتالي يشمل التمليك في الحال أو المستقبل في حياة كل من الواهب و الموهوب له.
إن الواهب ينقل كل ماله أو جزء منه بلا مقابل مما يترتب عليه افتقار الواهب و اغتناء الموهوب له.
تنص المادة 205 ق.أ : " يجوز للواهب أن يهب كل ممتلكاته أو جزء منها عينا أو منفعة أو دينا لدى الغير ."، و الملاحظ على هذه المادة أن الهبة تختلف عن باقي عقود التبرع الأخرى كالعارية و الوديعة ، كون الأولى تمليك عين أو منفعة أو حقوق شخصية أو عينية ، و الثانية تقتصر فقط على تمليك منفعة.
إن المشرع عندما عرف الهبة أغفل ذكر عبارة ( حال الحياة )، أي حال حياة
كل من الواهب و الموهوب ل، إذ أن هذه العبارة هي التي تميز الهبة عن الوصية.
المطلب الثالث : أدلة مشروعية الهبة في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : من الكتاب و السنة
1- مـن الكتـــــاب : دل على مشروعية الهبة ما ورد في القرآن الكريم ، منه قوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء فكلوه هنيئا مريئا}(1)، و قوله : { و آتي المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل...}(2) ، و قوله أيضا: { و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي أن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}(3)، و قوله عز و جل : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } (4)
2- مـن السنـــــــة : ورد في السنة المطهرة أكثر من دليل على جواز الهبة : نخص منهم بالذكر ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " كان النبي- صلى اله عليه و سلم- يقبل الهدية و يثب عنها"( 5) ما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: " قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: تهادوا تحابوا."(6(
(1) سورة النساء، الآية 04
(2) سورة البقرة، الآية177
(3) سورة الأحزاب، الآية50
(4) سورة البقرة، الآية275
(5)، (6) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص29،28
عن عمر- رضي الله عنه- قال: "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه و ظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا تشتره و لا تعد في صدقتك و إن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه."(1(ما روي عن علي- رضي الله عنه- قال:"أهدى كسرى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقبل منه و أهدى إليه قيصر فقبل و أهدى له الملوك فقبل منها."(2(
فرع ثاني: من الإجماع و المعقول
1- مــن الإجـمـــــــاع : لقد أقر الصحابة - رضوان الله عليهم - الهبة و على رأسهم ما روي عن الصديق - رضي الله عليه - أنه قال للسيدة عائشة - رضوان الله عليها - "إني نحلتك جداد عشرين و سقا من مالي بالعالية، و إنك لم تكوني قبضتيه فإنه اليوم مال الوارث ."(3( و ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:"من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة فإنه لا يرجع فيها، إن لم يرض عنها ."(4(و تبعهم في ذلك الفقهاء و جموع المسلمين في شتى العصور بأن أقروا جواز الهبة و استحبابها بمختلف أنواعها ما لم تكن حرام.
2- مــن المعـقـــــول : إن ما ورد في القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة و إجماع الصحابة و الفقهاء يجعل الهبة ذات حكمة بالغة فمن شأنها غرس بذور المحبة و إزالة الضغينة و الحقد بين الواهب و الموهوب له و تحث على البر و الإحسان بين أمة الإسلام عملا بقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، كما أن الهبة صفة من صفات المولى عز و جل لقوله تعالى : { إنك أنت العزيز الوهاب}، و من عمل بها اكتشف صفة من أشرف الصفات لما فيها من استعمال الكرم و إزالة الشح عن النفس.
(1) عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام، تسيير العلام- شرح عمدة الأحكام- ، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى ألبان- مكة المكرمة- الرياض،د.ت، ص540.
(2) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص29.
(3)،(4) د بدران أبو العينين بدران ، المواريث و الوصية و الهبة في الشريعة الإسلامية و القانون و نصوص القوانين الصادرة بشأنها ، مؤسسة شباب الجامعة للنشر و التوزيع ، 1985 ، ص 217.
المبحث الثاني : مقومات عقد الهبة
المطلب الأول : الهبة عقد ما بين الأحياء تنعقد الهبة بإيجاب و قبول كل من الواهب و الموهوب له أي تطابق إرادتهما دون أن يشوبها عيب من عيوب الرضا و هذا طبقا لنص المادة 206 ق.أ، مما ينتج عنها انتقال ملكية العين الموهوبة في حياة كل منهما، و لا يجوز الرجوع في الهبة إلا في الحالة التي حددها المشرع و هي خاصة بحق الأبوين في الرجوع عن الهبة لولدهما و هذا طبقا لنص المادة 211 ق.أ: " للأبوين حق الرجوع في الهبة لولدهما مهما كانت سنه إلا في الحالات التالية:
1)- إذا كانت الهبة من أحل زواج الموهوب له.
2)- إذا كانت الهبة لضمان قرض أو قضاء دين.
3)- إذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب ببيع، أو تبرع أو ضاع منه أو أدخل عليه ما غير طبيعته."
و هذا ما يميز الهبة عن الوصية، إذ الوصية تنعقد بإرادة الموصي المنفردة و يجوز لهذا أن يرجع فيها ما داما حيا، فلا تنتج الوصية أثرها إلا عند موته، أما رضا الموصى له بالوصية بعد موت الموصي فليس قبولا لإيجاب من الموصي، بل هو تثبيت لحق الموصى له في الموصى به حتى لا يكسب حقا بغير رضائه.(1( و أخيرا فمادامت الهبة لا تنعقد إلا ما بين الأحياء ، فإن أثر التصرف بها لا يمتد إلى ما بعد الموت كالهبة التي يعرفها القانون الروماني و لا يعرفها القانون الجزائري و المصري ، فلا يجوز في هذين القانونين أن يعقد الواهب هبة أو يرجئ في الوقت ذاته نقل ملكية الموهوب إلى ما بعد موته فلا يستطيع أن يفعل ذلك إلا عن طريق الوصية التي يجوز له الرجوع فيها، و ذلك عندما يخشى الواهب دنو المنية منه في حالة مرض خطير أو أثناء حرب فهبته لا تنتقل ملكية المال الموهوب فإذا مات الواهب انفسخت الهبة من تلقاء نفسها.(2(
(1) د.عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد،ج5، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان،1998، الطبعة الثالثة الجديدة، ص6.
(2) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص28.
المطلب الثاني: الهبة تصرف في مال بلا عوض الهبة عقد من عقود التبرع بوجه عام إذ يتصرف الواهب في ماله بنية التبرع و بدون عوض، غير أن الهبة تتميز عن عقود التبرع الأخرى كالعارية و الوديعة كون الهبة تنقل ملكية الشيء الموهوب ساو كان عقارا أو منقولا كما يمكن أن تكون الهبة حق انتفاع أو حق استعمال أو حق ارتفاق و غير ذلك من الحقوق العينية الأصلية المتفرعة عن الملكية كما قال الدكتور السنهوري:" أن يكون الحق الموهوب هو حق الملكية في العقار أو المنقول بل يجوز أن يكون حق انتفاع أو استعمال أو حق سكني أو حف حكر أو حق ارتفاق، أو غير ذلك من الحقوق الأصلية المتفرعة عن الملكية."
أما عقود التبرع الأخرى كالعارية و الوديعة و الوكالة بدون أجر، و التبرع بأداء
خدمة أو عمل آخر فالمتبرع يلتزم بأداء عمل أو الامتناع عن عمل.
و تشترك الهبة مع سائر التبرعات الأخرى في أنها تجعل الموهوب له يثري دون
عوض و في أنها تقترن بنية التبرع، غير أنها تنفرد بخاصية هي أنها من أعمال التصرف، فالواهب يلتزم بنقل ملكية دون مقابل.
و لما كانت الهبة تصرف في المال فقد خرجت الكفالة العينية عن أن تكون هبة، و ذلك أن الكفيل العيني، و إن كان يتصرف في ماله بأن ينقل عينا مملوكة له برهن ضمانا لدين شخص آخر، إلا أنه لا يلتزم بنقل حق عيني أصلي لا إلى الدائن و لا إلى المدين و إذا نزعت ملكية العين المثقلة بالرهن وفاءا للدين، فإن الكفيل العيني له حق الرجوع على المدين بما وفاه من دينه، و إذا نزل عن هذا الحق فإنه يكون متبرعا، بحق الرهن الذي تنقل به العين.(1)
و يستفاد من نص المادة 202 ق.أ، أنه يجوز للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام معين حتى تنتقل العين الموهوبة إلى حيازته، على أن يكون هذا الشرط غير مخالف للنظام العام و الآداب العامة سواء اشترط ذلك لمصلحة الواهب أو لمصلحة الموهوب له أو لفائدة شخص أجنبي أو للمصلحة العامة. كما يجب ألا تكون قيمة العوض أكبر من قيمة العين الموهوبة، فإن كانت أكثر لا يلتزم الموهوب له سوى بقيمة العين الموهوبة فقط.
(1)د. السنهوري ، المرجع السابق، ص10
المشرع الجزائري لم يورد نصوص تشريعية بل ترك الأمر لاجتهاد الفقهاء و فتح
الباب على مصراعيه فبما يخص اشتراط الواهب العوض لمصلحته أو لمصلحة أجنبيأ و للمصلحة العامة.
المطلب الثالث : نية التبرع حتى تتحقق الهبة يجب أن يتوفر إلى جانب المقومات السالفة الذكر مقوم نية التبرع الذي يحتوي على عنصران:
o العنصر المعنوي : و هو مسألة نفسية و العبرة فيه بما يقوم في نفس المتبرع وقت هل قصد التضحية من جانبه دون أن يقصد منفعة أو قصد من وراء تبرعه منفعة و ما عسى أن يقصده المتبرع من منفعة وراء تبرعه ل يدخل بطبيعة الحال في نطاق العقد و إلا كانت المسألة تتعلق بعوض الهبة لا بنية التبرع.(1(
o العنصر المادي : هو انتقال العين الموهوبة من الواهب إلى الموهوب له دون مما ينتج عن ذلك افتقار من جانب الواهب و اغتناء من جانب الموهوب له، و العنصر المادي هو أساس التنظيم القانوني للهبة ، حيث أن الهبة لا تقوم إلا بانتقال الحق المالي مهما كانت طبيعته أو قيمته و بتخلف هذا العنصر تنتفي الهبة و بالنظر إلى ما سبق فإن التصرف لا يعد هبة في الحالات التالية:
1- إذا كان الغرض من الهبة الوفاء بدين مدني أو طبيعي.
2- إذا كانت القصد من التصرف الحصول على منفعة أي كان نوعها أو كانت صورتها سواء كانت هذه المنفعة مادية أو أدبية
3- إذا كان القصد من الهبة مجازاة الموهوب له مثل أن يعطي شخص من يقوم بخدمته مبلغا من المال مكافأة له نظير تفانيه في خدمته و إخلاصه في العمل. فإن ذلك لا يعد هبة لانتفاء نية التبرع و غير ذلك من التصرفات التي يراد بها المجازاة مقابل خدمة ما.
4- الأموال التي يتم صرفها كجزء من الأجر وفقا لما جرى به العرف و العمل.(2)
( (1)د. السنهوري، المرجع السابق، ص15، من الهامش.
(2) د. محمد بن أحمد تقية ، المرجع السابق، ص32.
المطلب الرابع: الهبة عقد شكلي و عيني
عقد الهبة مثله مثل العقود الأخرى لا يجب أن يتوفر فيه التراضي فقط بل يجب أن ينصب في قالب معين و هذا ما نصت عليه المادة 206 ق.أ، و ذلك بتحرير الهبة في عقد رسمي على يد موظف مختص هو الموثق و زيادة على ذلك بجب تسليم العين الموهوبة إلى الموهوب له أي انتقالها إلى حيازته، و الشكلية أي الرسمية هي ركن أساسي في عقد الهبة المنصب على عقار.أما في عقد الهبة المنصب على المنقول فهو يخضع لإجراءات خاصة إلى جانب الحيازة و الرضا و ل يشترط فيه الشكلية إذ أن الحيازة هي الركن الأساسي في هبة المنقول لابد من توافرها.ويلاحظ أن الفقهاء المسلمين لا يتطلبون لانعقاد الهبة أن تحرر في ورقة رسمية و بناءا على ذلك يخالفون القوانين الحديثة. و ذلك لا ينبغي أن يعتبر مخالفة لمقاصد الشرع ما دامت مصلحة الواهبين تقتضي ذلك، لأن في تصرفاتهم خطرا كبيرا على مصالحهم و مصالح ورثتهم. خاصة و أن مقاصد الشريعة الإسلامية تقتضي متى و أين توجد المصلحة فثم شرع الله بالإضافة إلى أن لولي الأمر أن ينظم الأعمال بطريقة تحفظ حقوق الناس و ترعى مصالحهم.(1)و نظرا إلى أن تصرف الواهب خطير يتجرد به من ماله دون مقابل، و ضار في نفس الوقت به و ورثته من بعده فقد فرض المشرع هذه الشكلية فيه حتى يتسع الوقت للواهب فيتدبر أمر هذا التصرف فهل يمضي فيه أو ينثني عنه.(2(
(1) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص37.
(2) د. السنهوري، المرجع السابق، ص20، من الهامش.
المبحث الثالث: التمييز بين الهبة و العقود المشابهة لها
المطلب الأول: التمييز بين الهبة و العقود الملزمة لجانب واحد
الفرع الأول: التمييز بين الهبة و الوصية قبل التطرق إلى الفرق بين الهبة و الوصية وجب تعريف الوصية فقها و قانونا.فقد عرفها الحنفية بأنها: " تمليك مضاف إلى ما بعد الموت"(1)، و عرفها المالكية بأنها: " عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه".(2(و عرفها الشافعية بأنها: " تبرع بحق مضاف و لو تقديرا لما بعد الموت و ليست تبرع بتدبير و لا تعليق عتق و إن التحق بها حكما".(3( و عرفها الحنابلة بأنها:" الأمر بالتصرف بعد الموت".(4) و عرفها المشرع الجزائري في الكتاب الرابع من قانون الأسرة بنص المادة 184: " الوصية تمليك مضاف إلى بعد الموت بطريق التبرع"الهبة تتفق مع الوصية في كونهما من عقود التبرع إلا أنهما يتميزان عن بعضهما في جوانب أخرى و هي كالتالي:
1- الهبة تصرف حال الحياة، و الوصية تصرف مضاف إلى ما بعد الموت.(5) )
حيث أن عقد الهبة يلزم لإنشائه توافق إرادتي كل من الواهب و الموهوب له و انتفاء العين الموهوبة حال حياة كل منهما، بينما الوصية يجب أن تتوفر فيها إرادة الموصي فقط لأنها تصرف ملزم لجانب واحد و بالتالي تخرج من دائرة العقود و تنتقل ملكية العين الموصى بها بعد وفاة الموصي.
2- الأصل في الهبة امتناع الرجوع فيها إلا في الأحوال التي يجوز فيها الرجوع، بينما الوصية يصح فيها للموصي أن يرجع عن وصيته متى شاء ما دام على قيد الحياة وفقا للمادة 182 ق.أ(6) " يجوز الرجوع قي الوصية صراحة أو ضمنا، فالرجوع الصريح يكون بوسائل إثباتها و الضمني يكون بكل تصرف يستخلص منه الرجوع فيها."
(1)،(2)،(3)،(4)،(5) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص 32.
(6) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص 38.
3- أوجب المشرع الجزائري الرسمية في هبة العقار و الإجراءات الخاصة في هبة المنقول تحت طائلة البطلان طبقا لنص المادة206ق.أ، بينما الوصية لا تلزم فيها الشكلية إلا بمناسبة الإثبات و بعد وفاة الموصي و انتقال الملكية إلى الموصى له طبقا لنص المادة191ق.أ: " تثبت الوصية:
1 بتصريح الموصى أمام الموثق و تحرير عقد بذلك.
2 و في حالة وجود مانع قاهر تثبت الوصية بحكم، و يؤشر به على الهامش أصل
الملكية".
4- الهبة سواء في القانون أو في الشرع ليست مقيدة بقدر معين فيجوز أن ترد على مال الواهب كله، إلا إذا كانت في مرض الموت، فلا تنفذ إلا في حدود الثلث، بينما الوصية يلتزم أن تتقيد بالثلث من التركة دائما.و من ثم تنفذ في حدود ثلث التركة و ما زاد عن الثلث تتوقف على إجازة الورثة،
المادة185ق.أ(1): " تكون الوصية في حدود ثلث التركة، وما زاد على الثلث تتوقف على إجازة الورثة." و قد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "الثلث و الثلث كثير".بالإضافة إلى ذلك فإن الهبة قد تكون لوارث بينما الوصية فلا تكون أبدا لوارث لقوله عليه أفضل الصلة و السلام:" لا وصية لوارث".
الفرع الثاني: التمييز بين الهبة والإباحةتعرف الإباحة على أنها الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل.
و يقصد علماء أصول الفقه بالإباحة ما خير فيه الشارع بين الفعل و الترك فلا هو مدح على الفعل و لا ذم على الترك.و ليس المقصود من الإباحة هنا الإباحة من الشارع كما يقصد علماء الأصول، لأن الإباحة على هذا النحو حكم شرعي، و إنما المقصود من الإباحة هي الإباحة من العباد، كأن يضع شخص مائدة كي يأكل منها من يأذن له في الأكل.(2(
(1)د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص39.
(2) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص31.
و الإباحة على هذا النحو تختلف عن الهبة في أمور هي:
1- أن الهبة عند الجمهور تتوقف على الإيجاب و القبول بخلاف الإباحة فهي تتوقف على الإذن من المالك.
2- يحق للموهوب له أن يتصرف في الشيء الموهوب بكل أنواع التصرفات بخلاف المباح له فهو يحق له أن يتصرف إلا في حدود ما أبيح.
3- أن الهبة لا تكون إلا ذاتاً، بخلاف المباح فقد يكون ذاتاً و قد يكون منفعة.(1(تشترك الهبة مع الإباحة في أن كلا منهما فيه تليك للأعيان بلا عوض دنيويةو أنه يجوز الرجوع فيهما قبل القبض عند المالكية.(2(
الفرع الثالث التمييز بين الهبة و العارية لقد عرف الحنفية العارية بأنها:" تمليك المنافع بغير عوض".(3) وعرفها المالكية بأنها:" تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض".(4) و عرفها الشافعية بأنها:" إباحة منفعة ما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه".(5) و عرفها الحنابلة بأنها:" الانتفاع بعين من أعيان المال".(6( و تشترك الهبة و العارية في كونهما عقد من عقود التبرع، و أن المنتفع فيهما يثري على حساب الغير بدون مقابل و يختلفان عن بعضهما في الأوجه التالية:
1- المشرع الجزائري استلزم الرسمية في هبة العقار و الإجراءات الخاصة في هبة المنقول بينما العارية استلزم فيها تراضي الطرفين المتعاقدين دون الرسمية.
2-في الهبة يحق للموهوب له تملك الشيء الموهوب و الانتفاع به عكس العارية التي يحق فيها للمستعير الانتفاع بالعين المعارة دون تملكها.
3-الأصل في الهبة أن يكون القصد منها التبرع بلا عوض، و ذلك بمنح الموهوب له منافع يحرم الواهب نفسه منها، بينما العارية على خلاف ذلك لا يكون قصد المعير منها في الأصل إفادة المستعير، بل يكون المراد منها تحقيق مصلحة نفسية و حتى إذا كان المقصود منها التبرع فإنها لا تكون هبة و ذلك لضآلة منفعة المتبرع بها، بالإضافة أن الدافع إليها في الكثير من الأحوال مراعاة حسن الجوار و المجاملة بين الناس.(7)
(1) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص32.
(2) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص41.
(3)،(4)،(5)،(6) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص33.
(7)د.محمد كامل مرسي باشا، المرجع السابق،ص18.
الفرع الرابع: التمييز بين الهبة و الوقف قبل أن نعرج على الفرق بين الهبة و الوقف وجب أن نتوقف عند معنى الوقف.فقد عرفه الحنفية بأنه:" حبس العين على ملك الواقف و التصديق بالمنافع".(1)و عرفه المالكية بأنه:" إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطيها و لو تقديرا".(2) وعرفه الشافعية بأنه:" حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع تصرف في رقبته على مصرف مباح".(3) و عرفه الحنابلة بأنه:" تحبيس الأصل و تحبيس المنفعة".(4) يظهر وجه الشبه بين الهبة و الوقف في أن كليهما عقد من عقود التبرع حيث أن مال الواهب يخرج إلى ملك الموهوب له أما الواقف فيخرج ماله من ملكه و يحبس العين على ملك الواقف.
و الفرق بينهما يتبين فيما يلي:
1-الهبة ترد على الذات أما الوقف فيرد على المنفعة.
2- أن الهبة يفسدها التوقيت، بخلاف الوقف فيجوز توقيته عند بعض الفقهاء.(5) 3- أن الهبة تؤدي إلى زوال ملك الواهب، بخلاف الوقف إذ يبقى الموقوف على ملك الواقف، و قيل: ينتقل الملك بالوقف إلى الله تعالى.(6)
المطلب الثاني: التمييز بين الهبة و العقود الملزمة لجانبين
الفرع الأول: التمييز بين الهبة و البيع
قد يتخذ البيع ستارا للهبة، فيذكر فيه عوضا على أنه ثمن ثم يهب البائع الثمن
للمشتري مثل هذا العقد في طبيعته هبة مكشوفة، بمعنى أن نية التبرع واضحة في العقد.و البيع يكون دائما في بمقابل، في حين أن الهبة تتم بدون مقابل. إذ هذا الأخير هو الذي يميز هذين العقدين، إلا أنه قد تكون الهبة بمقابل أي بعوض. فالسؤال المطروح هنا، كيف نميز بينهما؟
(1)،(2)،(3)،(4) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص35.
(5)،(6) نفس المرجع، ص36.
هناك رأي يذهب في هذه الحالة إلى التفرقة بناءا على نية التبرع، فإذا توفرت النية لدى العاقد، فهنا العقد هبة دون النظر إلى المقابل و لو كان كبيرا.لكن هناك رأي أخر يذهب إلى الاعتداد بالمقابل فإذا كان هذا الأخير مساويا لقيمة الشيء المبيع، فهنا نكون بصدد عقد بيع، وإذا كان المقابل أقل من قيمة الشيء المبيع، فالعقد هبة. أما إذا كان المقابل أكبر من قيمة الشيء المبيع فنكون بصدد عقد بيع. و هذا الرأي الموضوعي الأخير ينتقد فكرة النية التبرعية لأنه من الصعب استنتاجها.(1)
الفرع الثاني: التمييز بين الهبة و الإيجار
فالهبة هي تمليك مال بلا عوض بقصد التبرع، بينما عقد الإيجار ينشئ التزامات
شخصية في جانب كل من المؤجر و المستأجر و لا يرتب حقا عينيا في الشيء المؤجر، ويترتب على ذلك أن الإيجار هو عقد ملزم لجانبين و أنه من عقود المعاوضات و ينقل ملكية الشيء المؤجر لمدة محدودة مقابل أجر، و عنصر الزمان فيه عنصر جوهري و لذا فهو عقد مؤقت. فبمقتضاه ينشأ ارتباط بين الأجرة و المدة، فالمدة هي مقياس الانتفاع بالشيء المؤجر، و الأجرة فيه مقابل الانتفاع و الهبة عقد الشكلية فيه واجبة إذا وقع على عقار أو منقول يتطلب إجراءات خاصة، بينما عقد الإيجار عقد رضائي لا يتطلب فيه الشكلية، و هو من عقود الإدارة، لا من عقود التصرف.(2(
(1) أ. زاهية سي يوسف، عقد البيع، دار الأمل للطباعة و النشر و التوزيع، الجزائر، الطبعة الثالثة،2000، ص 18، 19.
(2) د. السنهوري، المرجع السابق، ص4-5.
المبحث الرابع: موازنة بين الهبة في الشريعة و الهبة في القانون
المطلب الأول: من حيث التعريف
مما سبق نرى أن المذاهب الأربعة اتفقوا على أن الهبة هي تمليك عين أو منفعة بلا عوض، غير أننا نلاحظ أن كل من المذهبين الحنفي و المالكي أغفلوا ذكر عبارة "حال الحياة"، بينما أبرزها المذهبين الشافعي و الحنبلي، حيث ذكروا عبارة "حال حياة كل من الواهب و الموهوب له".
إن المشرع الجزائري في قانون الأسرة و خاصة في باب الهبة قد تماشى و مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء لارتباطه الوثيق بها و لتمسك شعبه بالإسلام في تقاليده و أخلاقه و قيمه، فكان لابد على المشرع أن يربط حاضر الأسرة الجزائرية بماضيها الزاخر بالعلم و المعرفة و يختار ما يساير العصر و يضاهي التطور، ويضبط علاقات الأسرة برباط المحبة و الود و البر و الإحسان و المعروف و التبرع و فعل الخير عن طريق الهبة.
تعريف الهبة الوارد في نص المادة 202 من قانون الأسرة مستمد من الفقه المالكي و على الأخص مأخوذ من مختصر جليل بن إسحاق لحرفيته.(1(وبتماشي المشرع مع الفقه المالكي لم يبرز عنصر إتمام الهبة بين الأحياء و لكنه استدرك ذلك في نص المادة 206 ق.أ بقوله: ".......بإيجاب و قبول......". مما تعني حال حياة كل من الواهب و الموهوب له.
المطلب الثاني: من حيث المقوماتالهبة على اتفاق كل من الشرع و القانون خاصة المذاهب الأربعة: الحنفية، المالكية، الشافعية و الحنبلية و المشرع الجزائري في نصوص قانون الأسرة اعتبروها تصرف في مال بلا عوض سواء وردت على نقل ملكية أو منفعة، مع توفر نية التبرع في الواهب.إلا أن المذاهب الأربعة اختلفت فيما يخص مقوم أن الهبة عقد ما بين الأحياء حيث أبرزها كل من المذهب الشافعي و الحنبلي و أهملها ، كل من المذهب الحنفي و المالكي.
(1) د. محمد بن أحمد تقية ، المرجع السابق، ص303.
أما فيما يخص مقوم الهبة عقد شكلي و عيني فقد ألزم المشرع الجزائري تحرير الهبة في عقد رسمي إذا انصبت على عقار وأما إذا انصبت على منقول فيجب إتباع الإجراءات الخاصة طبقا لنص المادة 206 ق.أ ، و بتخلف الشكلية تكون الهبة باطلة عكس المذاهب الأربعة مجتمعة التي لم توجب الرسمية في الهبة نظرا لطبيعة المعاملات السائدة آن ذاك ، من تشجيع الناس على المحبة و الود ونشر أواصل الأخوة بينهم و مساعدة بعضهم البعض ، وذلك بتسهيل المعاملات و حث المسلمين على القيام بالأفعال التي تشد حبل الود فيما بينهم ، وتقربهم إلى الله عز وجل ، و لهذه الأسباب مجتمعة كان ذلك العصر لم يعرف نظام التوثيق ونظام الشهر العقاري ، و كانت تقتصر الشكلية في الهبة على القبض أي انتقال العين الموهوبة إلى حيازة الموهوب له.
بسم الله الرحمن الرحيم
و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و الحمد لله دائما و أبدا في كل فعل و قول ومقصد فهو الواهب و المنعم على خلقه بالكتابة في سبيل إعلاء كلمته و الدعوة إليه و تعريف الناس بفقهه و شرعه و سنة رسوله محمداً - صلى الله عليه وآله و سلم - إصلاحا لشأنهم و إحقاقا للحق و العدل في معاملاتهم المتعددة بتعدد صور انتقالها فمنها ما يهدف إلى تحقيق المصلحة كالبيع و الإيجار و منها ما يهدف إلى التبرع كالوصية و الهبة.
فالهبة من العقود الناقلة للملكية الملزمة لجانب واحد إلا أن هناك استثناء حين تصبح ملزمة للطرفين و ذلك عندما تكون بعوض. و الهبة تحتاج إلى نظرة تخصصية من حيث فهم موضوعها سواء من الناحية الشرعية أو من الناحية القانونية.فهي ذات أهمية بالغة في تقوية الروابط الإنسانية المبنية على أساس البر لقوله تعالى في الآية92 آل عمران{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، و ا لرحمة و الإحسان لقوله - صلى الله عليه و سلم-:" جبلت النفوس على حب من أحسن إليها" و تكريم الإنسان لأخيه الإنسان، خاصة و أننا نشهد في عصرنا الحالي تفكك الروابط الإنسانية و تشتتها و اتسام العلاقات بين الناس بالفتور.
كما أن لها أهمية ملفتة في الحياة العلمية و القانونية فهي تصرف خطير، إذ يتطلب جرأة من الواهب للتنازل عن جزء من ماله قد يكون ذا تأثير كبير على وضعيته المالية بما قد يلحق ضررا بورثته كحرمانهم من الميراث.و قد ارتأينا أن هذا البحث جدير بالاهتمام و الدراسة لأن الهبة تشكل حدثا هاما في حياة الإنسان إذ أصبحت من أهم التصرفات القانونية الجاري العمل بها.بالإضافة إلى العرض الخاص الذي نتوخاه من هذه الدراسة ألا و هو تنمية الفكر و تزويده بجملة من المعارف فيما يخص الجانب الفقهي و القانوني في هذا الإطار ومن هنا تبادر إلى ذهننا مجموعة من الإشكاليات التي نراها ضرورية في موضوعنا هذا و من بينها:
هل المشرع الجزائري أخذ أحكام الهبة كلها من الشريعة الإسلامية أو لا ؟.
و إن كان قد أخذ من الفقه الإسلامي فهل اعتمد على كل المذاهب أو ركز على مذهب واحد؟.
و بما أن الهبة لها تأثير كبير على الحياة الأسرية فهل لها صلة عضوية بالأسرة؟.
و للإجابة على مجموع هذه الإشكاليات قسمنا بحثنا إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول : مفهوم الهبة.
الفصل الثاني : أركان عقد الهبة.
الفصل الثالث : أحكام عقد الهبة.
الفصل الأول مفهوم الهبة
المبحث الأول : تعـريـف الهـبــــة
المطلب الأول : تعريف الهبة في الفقه الإسلامي
الفرع الأول : تعريف الهبة لغة :
الهبة في اللغة هي التبرع و التفضل على الغير و لو بغير مال أي بما ينتفع به مطلقا سواء كان مال أو غير مال(1).مثلا هبة المال كهبة شخص لآخر فرسا أو سيارة أو دارا ، و مثال هبة غير المال كقول إنسان لآخر ليهب الله لك ولدا ، مع أن ولد ذلك الشخص حرا ليس بمال(2) ، لقوله تعالى: {فهب لي من لدنك وليا}(3) و قوله عز و جل{ يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور}(4)
و الهبة إذا كثرت يسمى صاحبها وهابا، و هو من أبنية المبالغة، و يقال: رجل وهاب ووهابة أي كثير الهبة(5(
الفرع الثاني: تعريف الهبة اصطلاحا
I. الهبة في المذهب الحنفي: و هي "تمليك العين بغير عوض"(6) أي أن كل شخص يملك عينا ملكا صحيحا يستطيع أن يهبها لغيره من دون عوض في الحال أو المستقبل أثناء حياته.
II. الهبة في المذهب المالكي: قسم المالكية الهبة إلى هبة لغير ثواب و هبة الثواب،
فالأولى هي:" تمليك من له التبرع ذاتا تنقل شرعا بلا عوض لأهل بصيغة أو ما يدل عليه"(7). أي أن الهبة تمنح من ذي أهلية خالي من عيوب الإرادة يريد بها وجه الشخص و مرضاة الله. أما الثانية فقد عرفها الإمام ابن عرفة:" عطية قصد بها عوض مالي" و هذا النوع من الهبة يعد بيعا من البيوع لاشتمالها على العوض.
(1) د. محمد كامل مرسي باشا، شرح القانون المدني الجديد، ج 5، العقود المسماة ، ص 16
(2) د. محمد بن أحمد تقية، دراسة عن الهبة في قانون الأسرة الجزائري مقارنة بأحكام الشريعة الإسلامية و القانون المقارن، الديوان الوطني للأشغال التربوية، الجزائر، الطبعة الأولى 2003، ص14
(3) سورة مريم، الآية - 05
–(4) سورة الشورى، الآية - 48 –(5) و (6) و (7) د. حسن محمد بودى، موانع الرجوع في الهبة في الفقه الإسلامي و القانون الوضعي، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2003 ، ص 19 ، 20 ، 21
III. الهبة في المذهب الشافعي: و هي: "تمليك العين بلا عوض حال الحياة تطوعا" و قد زاد الفقه الشافعي كلمة "تطوعا" عن الفقه الحنفي و ذلك لإخراج الواجبات كالزكاة و النذر والكفارات.
IV. الهبة في المذهب الحنبلي: عرف ابن قدامى الهبة بأنها:" الهبة و الصدقة و الهدية و العطية معانيها متقاربة و كلها تمليك في الحياة بغير عوض، و اسم العطية شامل لجميعها"، و كذلك الهبة و الصدقة و العطية متغايران، فإن النبي- صلى الله عليه و سلم- كان يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة و قال في اللحم الذي تصدق به على بريرة: " هو عليها صدقة و لنا هدية" فالظاهر أن من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة و من دفع إلى إنسان شيئا للتقرب إليه و المحبة له فهو هدية و جميع ذلك مندوب إليه و محثوث إليه فإن النبي- صلى الله عليه و سلم- قال: " تهادوا تحابوا"(1(و قد امتاز هذا التعريف عن التعريفات السابقة له بأنه أورد أن الهبة تقع في حياة كل من الواهب و الموهوب له و بذلك قد ميزها عن الوصية.
المطلب الثاني: تعريف الهبة الوارد في قانون الأسرة الجزائري
عرف المشرع الجزائري الهبة بنص المادة 202 قانون أسرة بقوله: " الهبة تمليك بلا عوض.و يجوز للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام يتوقف تمامها على إنجاز الشرط "
الفرع الأول: تحليل عبارات التعريف
1)الهبة تمليك:تعني هذه العبارة أن الهبة وسيلة تمليك تنتقل بواسطتها ملكية المال الموهوب من الواهب إلى الموهوب له، و عملية نقل الملكية ينتج عنها عنصران آخران و هما عنصر افتقار في جانب الواهب و عنصر اغتناء في جانب الموهوب له(2(
(1) المغني للإمام موفق الدين بن قدامى للإمام شمس الدين بن أبي عمر بن قدامى المقدسي، ج6، دار الكتاب للنشر و التوزيع، بيروت، ب.ت، ص246.
(2) أ. عبد الفتاح تقية، محاضرات في قانون الأحوال الشخصية لطلبة الكفاءة المهنية للمحاماة ، مطبعة دار هومة ، الجزائر، 2000، ص106
2) بلا عوض : معنى ذلك أن المال الموهوب كله أو جزؤه ينتقل إلى الموهوب له مجانا دون مقابل و يتلازم مع وجود عنصر آخر هو نية التبرع من الواهب بغية التودد و التحبب إلى الموهوب له أو بغية التقرب إلى وجه الله أو للأمرين معا.
3) ) يجوز للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام يتوقف تمامها على
إنجاز الشرط : حيث يمكن للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بعمل معين ، و إتمام هذا العمل حتى تنتقل إليه العين الموهوبة ، و هنا المشرع لم يقصد الهبة بعوض ، بل قصد الهبة الموقوفة على شرط.
الفرع الثاني : الملاحظات الواردة على هذا التعريف
يتضح من الوهلة الأولى أن المشرع الجزائري في نص المادة 202 ق.أ ، اعتبرت الهبة من التصرفات و ليست من العقود و لكن بالرجوع إلى نص المادة 206 ق.أ: تنعقد الهبة بالإيجاب و القبول و تتم الحيازة ، و مراعاة أحكام التوثيق في العقارات و الإجراءات الخاصة في المنقولات.
و إذا اختل أحد القيود السابقة بطلت الهبة."
نجد أن الهبة تنعقد بالإيجاب و القبول مما يجعلها كسائر العقود تنطبق عليها القواعد العامة التي تنظم العقود.
إن تعريف الهبة الوارد في نص المادة 202 ق.أ هو تعريف مأخوذ من الفقه
المالكي.
يستفاد من نص المادتين 206،202 ق،أ ، أن الهبة عقد بين الأحياء و ذلك أن الهبة عقد لابد أن يتوافق فيه الإيجاب و القبول و بالتالي يشمل التمليك في الحال أو المستقبل في حياة كل من الواهب و الموهوب له.
إن الواهب ينقل كل ماله أو جزء منه بلا مقابل مما يترتب عليه افتقار الواهب و اغتناء الموهوب له.
تنص المادة 205 ق.أ : " يجوز للواهب أن يهب كل ممتلكاته أو جزء منها عينا أو منفعة أو دينا لدى الغير ."، و الملاحظ على هذه المادة أن الهبة تختلف عن باقي عقود التبرع الأخرى كالعارية و الوديعة ، كون الأولى تمليك عين أو منفعة أو حقوق شخصية أو عينية ، و الثانية تقتصر فقط على تمليك منفعة.
إن المشرع عندما عرف الهبة أغفل ذكر عبارة ( حال الحياة )، أي حال حياة
كل من الواهب و الموهوب ل، إذ أن هذه العبارة هي التي تميز الهبة عن الوصية.
المطلب الثالث : أدلة مشروعية الهبة في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : من الكتاب و السنة
1- مـن الكتـــــاب : دل على مشروعية الهبة ما ورد في القرآن الكريم ، منه قوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء فكلوه هنيئا مريئا}(1)، و قوله : { و آتي المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل...}(2) ، و قوله أيضا: { و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي أن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}(3)، و قوله عز و جل : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } (4)
2- مـن السنـــــــة : ورد في السنة المطهرة أكثر من دليل على جواز الهبة : نخص منهم بالذكر ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " كان النبي- صلى اله عليه و سلم- يقبل الهدية و يثب عنها"( 5) ما روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: " قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: تهادوا تحابوا."(6(
(1) سورة النساء، الآية 04
(2) سورة البقرة، الآية177
(3) سورة الأحزاب، الآية50
(4) سورة البقرة، الآية275
(5)، (6) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص29،28
عن عمر- رضي الله عنه- قال: "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه و ظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا تشتره و لا تعد في صدقتك و إن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه."(1(ما روي عن علي- رضي الله عنه- قال:"أهدى كسرى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقبل منه و أهدى إليه قيصر فقبل و أهدى له الملوك فقبل منها."(2(
فرع ثاني: من الإجماع و المعقول
1- مــن الإجـمـــــــاع : لقد أقر الصحابة - رضوان الله عليهم - الهبة و على رأسهم ما روي عن الصديق - رضي الله عليه - أنه قال للسيدة عائشة - رضوان الله عليها - "إني نحلتك جداد عشرين و سقا من مالي بالعالية، و إنك لم تكوني قبضتيه فإنه اليوم مال الوارث ."(3( و ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:"من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة فإنه لا يرجع فيها، إن لم يرض عنها ."(4(و تبعهم في ذلك الفقهاء و جموع المسلمين في شتى العصور بأن أقروا جواز الهبة و استحبابها بمختلف أنواعها ما لم تكن حرام.
2- مــن المعـقـــــول : إن ما ورد في القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة و إجماع الصحابة و الفقهاء يجعل الهبة ذات حكمة بالغة فمن شأنها غرس بذور المحبة و إزالة الضغينة و الحقد بين الواهب و الموهوب له و تحث على البر و الإحسان بين أمة الإسلام عملا بقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، كما أن الهبة صفة من صفات المولى عز و جل لقوله تعالى : { إنك أنت العزيز الوهاب}، و من عمل بها اكتشف صفة من أشرف الصفات لما فيها من استعمال الكرم و إزالة الشح عن النفس.
(1) عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام، تسيير العلام- شرح عمدة الأحكام- ، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى ألبان- مكة المكرمة- الرياض،د.ت، ص540.
(2) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص29.
(3)،(4) د بدران أبو العينين بدران ، المواريث و الوصية و الهبة في الشريعة الإسلامية و القانون و نصوص القوانين الصادرة بشأنها ، مؤسسة شباب الجامعة للنشر و التوزيع ، 1985 ، ص 217.
المبحث الثاني : مقومات عقد الهبة
المطلب الأول : الهبة عقد ما بين الأحياء تنعقد الهبة بإيجاب و قبول كل من الواهب و الموهوب له أي تطابق إرادتهما دون أن يشوبها عيب من عيوب الرضا و هذا طبقا لنص المادة 206 ق.أ، مما ينتج عنها انتقال ملكية العين الموهوبة في حياة كل منهما، و لا يجوز الرجوع في الهبة إلا في الحالة التي حددها المشرع و هي خاصة بحق الأبوين في الرجوع عن الهبة لولدهما و هذا طبقا لنص المادة 211 ق.أ: " للأبوين حق الرجوع في الهبة لولدهما مهما كانت سنه إلا في الحالات التالية:
1)- إذا كانت الهبة من أحل زواج الموهوب له.
2)- إذا كانت الهبة لضمان قرض أو قضاء دين.
3)- إذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب ببيع، أو تبرع أو ضاع منه أو أدخل عليه ما غير طبيعته."
و هذا ما يميز الهبة عن الوصية، إذ الوصية تنعقد بإرادة الموصي المنفردة و يجوز لهذا أن يرجع فيها ما داما حيا، فلا تنتج الوصية أثرها إلا عند موته، أما رضا الموصى له بالوصية بعد موت الموصي فليس قبولا لإيجاب من الموصي، بل هو تثبيت لحق الموصى له في الموصى به حتى لا يكسب حقا بغير رضائه.(1( و أخيرا فمادامت الهبة لا تنعقد إلا ما بين الأحياء ، فإن أثر التصرف بها لا يمتد إلى ما بعد الموت كالهبة التي يعرفها القانون الروماني و لا يعرفها القانون الجزائري و المصري ، فلا يجوز في هذين القانونين أن يعقد الواهب هبة أو يرجئ في الوقت ذاته نقل ملكية الموهوب إلى ما بعد موته فلا يستطيع أن يفعل ذلك إلا عن طريق الوصية التي يجوز له الرجوع فيها، و ذلك عندما يخشى الواهب دنو المنية منه في حالة مرض خطير أو أثناء حرب فهبته لا تنتقل ملكية المال الموهوب فإذا مات الواهب انفسخت الهبة من تلقاء نفسها.(2(
(1) د.عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد،ج5، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان،1998، الطبعة الثالثة الجديدة، ص6.
(2) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص28.
المطلب الثاني: الهبة تصرف في مال بلا عوض الهبة عقد من عقود التبرع بوجه عام إذ يتصرف الواهب في ماله بنية التبرع و بدون عوض، غير أن الهبة تتميز عن عقود التبرع الأخرى كالعارية و الوديعة كون الهبة تنقل ملكية الشيء الموهوب ساو كان عقارا أو منقولا كما يمكن أن تكون الهبة حق انتفاع أو حق استعمال أو حق ارتفاق و غير ذلك من الحقوق العينية الأصلية المتفرعة عن الملكية كما قال الدكتور السنهوري:" أن يكون الحق الموهوب هو حق الملكية في العقار أو المنقول بل يجوز أن يكون حق انتفاع أو استعمال أو حق سكني أو حف حكر أو حق ارتفاق، أو غير ذلك من الحقوق الأصلية المتفرعة عن الملكية."
أما عقود التبرع الأخرى كالعارية و الوديعة و الوكالة بدون أجر، و التبرع بأداء
خدمة أو عمل آخر فالمتبرع يلتزم بأداء عمل أو الامتناع عن عمل.
و تشترك الهبة مع سائر التبرعات الأخرى في أنها تجعل الموهوب له يثري دون
عوض و في أنها تقترن بنية التبرع، غير أنها تنفرد بخاصية هي أنها من أعمال التصرف، فالواهب يلتزم بنقل ملكية دون مقابل.
و لما كانت الهبة تصرف في المال فقد خرجت الكفالة العينية عن أن تكون هبة، و ذلك أن الكفيل العيني، و إن كان يتصرف في ماله بأن ينقل عينا مملوكة له برهن ضمانا لدين شخص آخر، إلا أنه لا يلتزم بنقل حق عيني أصلي لا إلى الدائن و لا إلى المدين و إذا نزعت ملكية العين المثقلة بالرهن وفاءا للدين، فإن الكفيل العيني له حق الرجوع على المدين بما وفاه من دينه، و إذا نزل عن هذا الحق فإنه يكون متبرعا، بحق الرهن الذي تنقل به العين.(1)
و يستفاد من نص المادة 202 ق.أ، أنه يجوز للواهب أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام معين حتى تنتقل العين الموهوبة إلى حيازته، على أن يكون هذا الشرط غير مخالف للنظام العام و الآداب العامة سواء اشترط ذلك لمصلحة الواهب أو لمصلحة الموهوب له أو لفائدة شخص أجنبي أو للمصلحة العامة. كما يجب ألا تكون قيمة العوض أكبر من قيمة العين الموهوبة، فإن كانت أكثر لا يلتزم الموهوب له سوى بقيمة العين الموهوبة فقط.
(1)د. السنهوري ، المرجع السابق، ص10
المشرع الجزائري لم يورد نصوص تشريعية بل ترك الأمر لاجتهاد الفقهاء و فتح
الباب على مصراعيه فبما يخص اشتراط الواهب العوض لمصلحته أو لمصلحة أجنبيأ و للمصلحة العامة.
المطلب الثالث : نية التبرع حتى تتحقق الهبة يجب أن يتوفر إلى جانب المقومات السالفة الذكر مقوم نية التبرع الذي يحتوي على عنصران:
o العنصر المعنوي : و هو مسألة نفسية و العبرة فيه بما يقوم في نفس المتبرع وقت هل قصد التضحية من جانبه دون أن يقصد منفعة أو قصد من وراء تبرعه منفعة و ما عسى أن يقصده المتبرع من منفعة وراء تبرعه ل يدخل بطبيعة الحال في نطاق العقد و إلا كانت المسألة تتعلق بعوض الهبة لا بنية التبرع.(1(
o العنصر المادي : هو انتقال العين الموهوبة من الواهب إلى الموهوب له دون مما ينتج عن ذلك افتقار من جانب الواهب و اغتناء من جانب الموهوب له، و العنصر المادي هو أساس التنظيم القانوني للهبة ، حيث أن الهبة لا تقوم إلا بانتقال الحق المالي مهما كانت طبيعته أو قيمته و بتخلف هذا العنصر تنتفي الهبة و بالنظر إلى ما سبق فإن التصرف لا يعد هبة في الحالات التالية:
1- إذا كان الغرض من الهبة الوفاء بدين مدني أو طبيعي.
2- إذا كانت القصد من التصرف الحصول على منفعة أي كان نوعها أو كانت صورتها سواء كانت هذه المنفعة مادية أو أدبية
3- إذا كان القصد من الهبة مجازاة الموهوب له مثل أن يعطي شخص من يقوم بخدمته مبلغا من المال مكافأة له نظير تفانيه في خدمته و إخلاصه في العمل. فإن ذلك لا يعد هبة لانتفاء نية التبرع و غير ذلك من التصرفات التي يراد بها المجازاة مقابل خدمة ما.
4- الأموال التي يتم صرفها كجزء من الأجر وفقا لما جرى به العرف و العمل.(2)
( (1)د. السنهوري، المرجع السابق، ص15، من الهامش.
(2) د. محمد بن أحمد تقية ، المرجع السابق، ص32.
المطلب الرابع: الهبة عقد شكلي و عيني
عقد الهبة مثله مثل العقود الأخرى لا يجب أن يتوفر فيه التراضي فقط بل يجب أن ينصب في قالب معين و هذا ما نصت عليه المادة 206 ق.أ، و ذلك بتحرير الهبة في عقد رسمي على يد موظف مختص هو الموثق و زيادة على ذلك بجب تسليم العين الموهوبة إلى الموهوب له أي انتقالها إلى حيازته، و الشكلية أي الرسمية هي ركن أساسي في عقد الهبة المنصب على عقار.أما في عقد الهبة المنصب على المنقول فهو يخضع لإجراءات خاصة إلى جانب الحيازة و الرضا و ل يشترط فيه الشكلية إذ أن الحيازة هي الركن الأساسي في هبة المنقول لابد من توافرها.ويلاحظ أن الفقهاء المسلمين لا يتطلبون لانعقاد الهبة أن تحرر في ورقة رسمية و بناءا على ذلك يخالفون القوانين الحديثة. و ذلك لا ينبغي أن يعتبر مخالفة لمقاصد الشرع ما دامت مصلحة الواهبين تقتضي ذلك، لأن في تصرفاتهم خطرا كبيرا على مصالحهم و مصالح ورثتهم. خاصة و أن مقاصد الشريعة الإسلامية تقتضي متى و أين توجد المصلحة فثم شرع الله بالإضافة إلى أن لولي الأمر أن ينظم الأعمال بطريقة تحفظ حقوق الناس و ترعى مصالحهم.(1)و نظرا إلى أن تصرف الواهب خطير يتجرد به من ماله دون مقابل، و ضار في نفس الوقت به و ورثته من بعده فقد فرض المشرع هذه الشكلية فيه حتى يتسع الوقت للواهب فيتدبر أمر هذا التصرف فهل يمضي فيه أو ينثني عنه.(2(
(1) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص37.
(2) د. السنهوري، المرجع السابق، ص20، من الهامش.
المبحث الثالث: التمييز بين الهبة و العقود المشابهة لها
المطلب الأول: التمييز بين الهبة و العقود الملزمة لجانب واحد
الفرع الأول: التمييز بين الهبة و الوصية قبل التطرق إلى الفرق بين الهبة و الوصية وجب تعريف الوصية فقها و قانونا.فقد عرفها الحنفية بأنها: " تمليك مضاف إلى ما بعد الموت"(1)، و عرفها المالكية بأنها: " عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه".(2(و عرفها الشافعية بأنها: " تبرع بحق مضاف و لو تقديرا لما بعد الموت و ليست تبرع بتدبير و لا تعليق عتق و إن التحق بها حكما".(3( و عرفها الحنابلة بأنها:" الأمر بالتصرف بعد الموت".(4) و عرفها المشرع الجزائري في الكتاب الرابع من قانون الأسرة بنص المادة 184: " الوصية تمليك مضاف إلى بعد الموت بطريق التبرع"الهبة تتفق مع الوصية في كونهما من عقود التبرع إلا أنهما يتميزان عن بعضهما في جوانب أخرى و هي كالتالي:
1- الهبة تصرف حال الحياة، و الوصية تصرف مضاف إلى ما بعد الموت.(5) )
حيث أن عقد الهبة يلزم لإنشائه توافق إرادتي كل من الواهب و الموهوب له و انتفاء العين الموهوبة حال حياة كل منهما، بينما الوصية يجب أن تتوفر فيها إرادة الموصي فقط لأنها تصرف ملزم لجانب واحد و بالتالي تخرج من دائرة العقود و تنتقل ملكية العين الموصى بها بعد وفاة الموصي.
2- الأصل في الهبة امتناع الرجوع فيها إلا في الأحوال التي يجوز فيها الرجوع، بينما الوصية يصح فيها للموصي أن يرجع عن وصيته متى شاء ما دام على قيد الحياة وفقا للمادة 182 ق.أ(6) " يجوز الرجوع قي الوصية صراحة أو ضمنا، فالرجوع الصريح يكون بوسائل إثباتها و الضمني يكون بكل تصرف يستخلص منه الرجوع فيها."
(1)،(2)،(3)،(4)،(5) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص 32.
(6) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص 38.
3- أوجب المشرع الجزائري الرسمية في هبة العقار و الإجراءات الخاصة في هبة المنقول تحت طائلة البطلان طبقا لنص المادة206ق.أ، بينما الوصية لا تلزم فيها الشكلية إلا بمناسبة الإثبات و بعد وفاة الموصي و انتقال الملكية إلى الموصى له طبقا لنص المادة191ق.أ: " تثبت الوصية:
1 بتصريح الموصى أمام الموثق و تحرير عقد بذلك.
2 و في حالة وجود مانع قاهر تثبت الوصية بحكم، و يؤشر به على الهامش أصل
الملكية".
4- الهبة سواء في القانون أو في الشرع ليست مقيدة بقدر معين فيجوز أن ترد على مال الواهب كله، إلا إذا كانت في مرض الموت، فلا تنفذ إلا في حدود الثلث، بينما الوصية يلتزم أن تتقيد بالثلث من التركة دائما.و من ثم تنفذ في حدود ثلث التركة و ما زاد عن الثلث تتوقف على إجازة الورثة،
المادة185ق.أ(1): " تكون الوصية في حدود ثلث التركة، وما زاد على الثلث تتوقف على إجازة الورثة." و قد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "الثلث و الثلث كثير".بالإضافة إلى ذلك فإن الهبة قد تكون لوارث بينما الوصية فلا تكون أبدا لوارث لقوله عليه أفضل الصلة و السلام:" لا وصية لوارث".
الفرع الثاني: التمييز بين الهبة والإباحةتعرف الإباحة على أنها الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل.
و يقصد علماء أصول الفقه بالإباحة ما خير فيه الشارع بين الفعل و الترك فلا هو مدح على الفعل و لا ذم على الترك.و ليس المقصود من الإباحة هنا الإباحة من الشارع كما يقصد علماء الأصول، لأن الإباحة على هذا النحو حكم شرعي، و إنما المقصود من الإباحة هي الإباحة من العباد، كأن يضع شخص مائدة كي يأكل منها من يأذن له في الأكل.(2(
(1)د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص39.
(2) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص31.
و الإباحة على هذا النحو تختلف عن الهبة في أمور هي:
1- أن الهبة عند الجمهور تتوقف على الإيجاب و القبول بخلاف الإباحة فهي تتوقف على الإذن من المالك.
2- يحق للموهوب له أن يتصرف في الشيء الموهوب بكل أنواع التصرفات بخلاف المباح له فهو يحق له أن يتصرف إلا في حدود ما أبيح.
3- أن الهبة لا تكون إلا ذاتاً، بخلاف المباح فقد يكون ذاتاً و قد يكون منفعة.(1(تشترك الهبة مع الإباحة في أن كلا منهما فيه تليك للأعيان بلا عوض دنيويةو أنه يجوز الرجوع فيهما قبل القبض عند المالكية.(2(
الفرع الثالث التمييز بين الهبة و العارية لقد عرف الحنفية العارية بأنها:" تمليك المنافع بغير عوض".(3) وعرفها المالكية بأنها:" تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض".(4) و عرفها الشافعية بأنها:" إباحة منفعة ما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه".(5) و عرفها الحنابلة بأنها:" الانتفاع بعين من أعيان المال".(6( و تشترك الهبة و العارية في كونهما عقد من عقود التبرع، و أن المنتفع فيهما يثري على حساب الغير بدون مقابل و يختلفان عن بعضهما في الأوجه التالية:
1- المشرع الجزائري استلزم الرسمية في هبة العقار و الإجراءات الخاصة في هبة المنقول بينما العارية استلزم فيها تراضي الطرفين المتعاقدين دون الرسمية.
2-في الهبة يحق للموهوب له تملك الشيء الموهوب و الانتفاع به عكس العارية التي يحق فيها للمستعير الانتفاع بالعين المعارة دون تملكها.
3-الأصل في الهبة أن يكون القصد منها التبرع بلا عوض، و ذلك بمنح الموهوب له منافع يحرم الواهب نفسه منها، بينما العارية على خلاف ذلك لا يكون قصد المعير منها في الأصل إفادة المستعير، بل يكون المراد منها تحقيق مصلحة نفسية و حتى إذا كان المقصود منها التبرع فإنها لا تكون هبة و ذلك لضآلة منفعة المتبرع بها، بالإضافة أن الدافع إليها في الكثير من الأحوال مراعاة حسن الجوار و المجاملة بين الناس.(7)
(1) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص32.
(2) د. محمد بن أحمد تقية، المرجع السابق، ص41.
(3)،(4)،(5)،(6) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص33.
(7)د.محمد كامل مرسي باشا، المرجع السابق،ص18.
الفرع الرابع: التمييز بين الهبة و الوقف قبل أن نعرج على الفرق بين الهبة و الوقف وجب أن نتوقف عند معنى الوقف.فقد عرفه الحنفية بأنه:" حبس العين على ملك الواقف و التصديق بالمنافع".(1)و عرفه المالكية بأنه:" إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطيها و لو تقديرا".(2) وعرفه الشافعية بأنه:" حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع تصرف في رقبته على مصرف مباح".(3) و عرفه الحنابلة بأنه:" تحبيس الأصل و تحبيس المنفعة".(4) يظهر وجه الشبه بين الهبة و الوقف في أن كليهما عقد من عقود التبرع حيث أن مال الواهب يخرج إلى ملك الموهوب له أما الواقف فيخرج ماله من ملكه و يحبس العين على ملك الواقف.
و الفرق بينهما يتبين فيما يلي:
1-الهبة ترد على الذات أما الوقف فيرد على المنفعة.
2- أن الهبة يفسدها التوقيت، بخلاف الوقف فيجوز توقيته عند بعض الفقهاء.(5) 3- أن الهبة تؤدي إلى زوال ملك الواهب، بخلاف الوقف إذ يبقى الموقوف على ملك الواقف، و قيل: ينتقل الملك بالوقف إلى الله تعالى.(6)
المطلب الثاني: التمييز بين الهبة و العقود الملزمة لجانبين
الفرع الأول: التمييز بين الهبة و البيع
قد يتخذ البيع ستارا للهبة، فيذكر فيه عوضا على أنه ثمن ثم يهب البائع الثمن
للمشتري مثل هذا العقد في طبيعته هبة مكشوفة، بمعنى أن نية التبرع واضحة في العقد.و البيع يكون دائما في بمقابل، في حين أن الهبة تتم بدون مقابل. إذ هذا الأخير هو الذي يميز هذين العقدين، إلا أنه قد تكون الهبة بمقابل أي بعوض. فالسؤال المطروح هنا، كيف نميز بينهما؟
(1)،(2)،(3)،(4) د. حسن محمد بودى، المرجع السابق، ص35.
(5)،(6) نفس المرجع، ص36.
هناك رأي يذهب في هذه الحالة إلى التفرقة بناءا على نية التبرع، فإذا توفرت النية لدى العاقد، فهنا العقد هبة دون النظر إلى المقابل و لو كان كبيرا.لكن هناك رأي أخر يذهب إلى الاعتداد بالمقابل فإذا كان هذا الأخير مساويا لقيمة الشيء المبيع، فهنا نكون بصدد عقد بيع، وإذا كان المقابل أقل من قيمة الشيء المبيع، فالعقد هبة. أما إذا كان المقابل أكبر من قيمة الشيء المبيع فنكون بصدد عقد بيع. و هذا الرأي الموضوعي الأخير ينتقد فكرة النية التبرعية لأنه من الصعب استنتاجها.(1)
الفرع الثاني: التمييز بين الهبة و الإيجار
فالهبة هي تمليك مال بلا عوض بقصد التبرع، بينما عقد الإيجار ينشئ التزامات
شخصية في جانب كل من المؤجر و المستأجر و لا يرتب حقا عينيا في الشيء المؤجر، ويترتب على ذلك أن الإيجار هو عقد ملزم لجانبين و أنه من عقود المعاوضات و ينقل ملكية الشيء المؤجر لمدة محدودة مقابل أجر، و عنصر الزمان فيه عنصر جوهري و لذا فهو عقد مؤقت. فبمقتضاه ينشأ ارتباط بين الأجرة و المدة، فالمدة هي مقياس الانتفاع بالشيء المؤجر، و الأجرة فيه مقابل الانتفاع و الهبة عقد الشكلية فيه واجبة إذا وقع على عقار أو منقول يتطلب إجراءات خاصة، بينما عقد الإيجار عقد رضائي لا يتطلب فيه الشكلية، و هو من عقود الإدارة، لا من عقود التصرف.(2(
(1) أ. زاهية سي يوسف، عقد البيع، دار الأمل للطباعة و النشر و التوزيع، الجزائر، الطبعة الثالثة،2000، ص 18، 19.
(2) د. السنهوري، المرجع السابق، ص4-5.
المبحث الرابع: موازنة بين الهبة في الشريعة و الهبة في القانون
المطلب الأول: من حيث التعريف
مما سبق نرى أن المذاهب الأربعة اتفقوا على أن الهبة هي تمليك عين أو منفعة بلا عوض، غير أننا نلاحظ أن كل من المذهبين الحنفي و المالكي أغفلوا ذكر عبارة "حال الحياة"، بينما أبرزها المذهبين الشافعي و الحنبلي، حيث ذكروا عبارة "حال حياة كل من الواهب و الموهوب له".
إن المشرع الجزائري في قانون الأسرة و خاصة في باب الهبة قد تماشى و مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء لارتباطه الوثيق بها و لتمسك شعبه بالإسلام في تقاليده و أخلاقه و قيمه، فكان لابد على المشرع أن يربط حاضر الأسرة الجزائرية بماضيها الزاخر بالعلم و المعرفة و يختار ما يساير العصر و يضاهي التطور، ويضبط علاقات الأسرة برباط المحبة و الود و البر و الإحسان و المعروف و التبرع و فعل الخير عن طريق الهبة.
تعريف الهبة الوارد في نص المادة 202 من قانون الأسرة مستمد من الفقه المالكي و على الأخص مأخوذ من مختصر جليل بن إسحاق لحرفيته.(1(وبتماشي المشرع مع الفقه المالكي لم يبرز عنصر إتمام الهبة بين الأحياء و لكنه استدرك ذلك في نص المادة 206 ق.أ بقوله: ".......بإيجاب و قبول......". مما تعني حال حياة كل من الواهب و الموهوب له.
المطلب الثاني: من حيث المقوماتالهبة على اتفاق كل من الشرع و القانون خاصة المذاهب الأربعة: الحنفية، المالكية، الشافعية و الحنبلية و المشرع الجزائري في نصوص قانون الأسرة اعتبروها تصرف في مال بلا عوض سواء وردت على نقل ملكية أو منفعة، مع توفر نية التبرع في الواهب.إلا أن المذاهب الأربعة اختلفت فيما يخص مقوم أن الهبة عقد ما بين الأحياء حيث أبرزها كل من المذهب الشافعي و الحنبلي و أهملها ، كل من المذهب الحنفي و المالكي.
(1) د. محمد بن أحمد تقية ، المرجع السابق، ص303.
أما فيما يخص مقوم الهبة عقد شكلي و عيني فقد ألزم المشرع الجزائري تحرير الهبة في عقد رسمي إذا انصبت على عقار وأما إذا انصبت على منقول فيجب إتباع الإجراءات الخاصة طبقا لنص المادة 206 ق.أ ، و بتخلف الشكلية تكون الهبة باطلة عكس المذاهب الأربعة مجتمعة التي لم توجب الرسمية في الهبة نظرا لطبيعة المعاملات السائدة آن ذاك ، من تشجيع الناس على المحبة و الود ونشر أواصل الأخوة بينهم و مساعدة بعضهم البعض ، وذلك بتسهيل المعاملات و حث المسلمين على القيام بالأفعال التي تشد حبل الود فيما بينهم ، وتقربهم إلى الله عز وجل ، و لهذه الأسباب مجتمعة كان ذلك العصر لم يعرف نظام التوثيق ونظام الشهر العقاري ، و كانت تقتصر الشكلية في الهبة على القبض أي انتقال العين الموهوبة إلى حيازة الموهوب له.