قضية رقم 11 لسنة 5 قضائية المحكمة العليا "دستورية"
مبادئ الحكم: الرقابة على دستورية القوانين - حق التقاضى - سلطة قضائية - قانون - مبدأ الشرعية وسيادة القانون
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة العليا بالجلسة العلنية المنعقدة 3 من أبريل سنة 1976. برئاسة السيد المستشار/ بدوي إبراهيم حمودة رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين/ محمد عبد الوهاب خليل وعادل عزيز زخاري وعمر حافظ شريف نواب رئيس المحكمة ومحمد بهجت عتيبة وأبو بكر محمد عطية ومحمد فهمي حسن عشري. أعضاء
وحضور السيد المستشار/ محمد كمال محفوظ المفوض
وحضور السيد/ سيد عبد الباري إبراهيم أمين السر
أصدرت الحكم الآتي في القضية المقيدة بجدول المحكمة العليا برقم 11 لسنة 5 قضائية "دستورية" المقامة من ......... ضد ..............
الوقائع
أقام المدعى الدعوى رقم 116 لسنة 16 ق أمام المحكمة الإدارية للمصالح العامة بالإسكندرية يطلب الحكم بإلغاء قرار فصله من الخدمة مع ما يترتب على ذلك من آثار. وقال بيانا لدعواه أنه التحق بخدمة إدارة السواحل جندياً متطوعاً بتاريخ 3 من فبراير سنة 1948 بعد أن وقع إقراراً يخول مدير إدارة السواحل في فصله من الخدمة في أي وقت دون أن يكون له الرجوع على تلك الإدارة بشيء ما. وبتاريخ 14 من يوليو سنة 1968 صدرت توجيهات وزير الحربية رقم 7 لسنة 1968 بحصر وإخلاء الأفراد غير الصالحين لعرضها على هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة للتصرف فيها وفقاً لحكم المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 في شأن الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود بالقوات المسلحة والتي تنص على ما يأتي: " يستغني عن خدمة المتطوع في إحدى الحالات الآتية: (أ) إذا ثبت عدم صلاحيته من الناحية الفنية أو العسكرية. (ب) إذا كان طالباً بإحدى المدارس العسكرية ولم يمض بنجاح مراحل الدراسة طبقاً لشروط تطوعه. (ج) إذا رأت ذلك هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة لأسباب تتصل بدواعي الصالح العام. وتكون أوامر الاستغناء بالاستناد إلى هذه المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو " المراجعة " وقد قامت إدارة السواحل بحصر الحالات التي تنطبق عليها تلك التوجيهات، ثم قامت لجنة من هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة بفحص هذه الحالات ورأت الاستغناء عن خدمة بعض الأفراد وكان هو (المدعى) منهم وذلك استناداً إلى حكم المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 سالفة البيان - لما تبين لها من التقارير المقدمة من فرع المخابرات الحربية بإدارة السواحل- من عدم صلاحيتهم لمهام القتال ، ومن ثم أصدر مدير إدارة السواحل استناداً إلى رأي تلك اللجنة أمراً بتاريخ 26 من نوفمبر سنة 1968 بالاستغناء عن خدمته اعتباراً من أول ديسمبر سنة 1968 لعدم صلاحيته لمهام القتال. وقد دفعت الحكومة أمام تلك المحكمة بعدم قبول الدعوى استناداً إلى حكم الفقرة الثانية من المادة 119 من القانون سالف الذكر والتي تنص على أن تكون أوامر الاستغناء الصادرة استناداً إلى هذه المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة. وبتاريخ 26 من يناير سنة 1970 حكمت المحكمة الإدارية برفض الدفع بعدم قبول الدعوى وبقبولها وفي الموضوع برفضها، وأقامت قضاءها برفض الدفع حسبما ورد في أسباب حكمها على أن الفقرة الثانية من المادة 119 المتقدم ذكرها لا تحظر التقاضي بشأن إلغاء أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين وإنما هي تعني - فحسب - اعتبار تلك الأوامر كاملة ونافذة بمجرد صدورها دون ما حاجة إلى التعقيب أو التصديق عليها من سلطة أعلى. وقد طعن المدعى في هذا الحكم أمام الدائرة الاستئنافية بمحكمة القضاء الإداري، وقيد طعنه برقم 1164 لسنة 2 س ق، ودفع أمام هذه الدائرة بعدم دستورية القانون رقم 106 لسنة 1964 المشار إليه فيما نص عليه في المادة 119 منه من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة بالاستناد إلى تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة، وأقام هذا الدفع على مخالفة هذا النص للمادة 68 من الدستور الدائم التي كفلت حق التقاضي للناس كافة وحظرت النص فى القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. وبتاريخ 15 من مارس سنة 1972 قضت الدائرة الاستئنافية بمحكمة القضاء الإداري بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه وبعدم اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري ولائياً بنظر الدعوى، وأقامت هذا القضاء - حسبما ورد في أسبابه - على أنه وإن كان الأصل في القرارات الإدارية النهائية الصادرة بإنهاء خدمة العاملين أن تقبل الطعن بالإلغاء إلا أن للمشرع أن يستثنى بعض هذه القرارات فيجعلها - بنص صريح في القانون - غير قابلة لهذا الطعن، وأن هذا هو ما فعله المشرع بالنسبة إلى أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين في القوات المسلحة، إذ نص في المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 سالف الذكر على هذا الاستثناء مما تنحسر معه ولاية القضاء الإداري عن رقابة هذه الأوامر بدعوى الإلغاء، ويغدو معه الدفع بعدم دستورية هذا القانون غير جدي. وقد طعنت هيئة مفوضي الدولة في هذا الحكم، أمام المحكمة الإدارية العليا طالبة إلغاءه والحكم بوقف السير في الخصومة وتحديد أجل للمدعى لرفع الدعوى بعدم دستورية القانون المتقدم ذكره أمام المحكمة العليا.
وبتاريخ 4 من مارس سنة 1974 قررت دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا وقف الفصل في الطعن وأمهلت المدعى ثلاثة أشهر لاتخاذ إجراءات رفع الدعوى أمام المحكمة العليا بعدم دستورية النص المشار إليه. وبصحيفة مودعة قلم كتاب المحكمة العليا بتاريخ أول يونيه سنة 1974 أقام المدعى هذه الدعوى بطريق المعافاة طالباً الحكم بعدم دستورية القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود في القوات المسلحة فيما نصت عليه المادة 119 منه على أن تكون أوامر الاستغناء الصادرة بالاستناد إلى تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة. وبجلسة 22 من مايو سنة 1975 تحضير أودعت الحكومة مذكرة دفعت فيها - أصلياً- بعدم قبول الدعوى، وطلبت فيها - احتياطيا- رفض الدعوى موضوعاً. وقدمت هيئة المفوضين تقريراً انتهت فيه إلى أنها ترى الحكم بقبول الدعوى شكلاً وفي الموضوع بعدم دستورية المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المشار إليه فيما نصت عليه من أوامر الاستغناء الصادرة بالاستناد إليها تكون نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة. وقد نظرت الدعوى بجلسة 6 من مارس سنة 1976 وفيها أرجأت المحكمة إصدار الحكم لجلسة اليوم حيث صدر الحكم على الوجه الآتي: المحكمة بعد الإطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات والمداولة. من حيث أن الدعوى استوفت الأوضاع المقررة قانوناً. عن الدفع بعدم قبول الدعوى: من حيث إن مبنى هذا الدفع أن أمر الاستغناء عن خدمة المدعى لم يصدر استناداً إلى أحكام الماد ة119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المطعون فيها بمخالفة الدستور، وإنما صدر استنادا إلى النص الوارد في إقرار التطوع الموقع من المدعى والذي يخول المدير العام لإدارة السواحل الحق في فصل المدعى من الخدمة في أي وقت دون أن يكون لهذا الأخير الحق في الرجوع على تلك الإدارة بشيء ما ، مما مفاده أن دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا - إذ رأت وقف السير في الخصومة الموضوعية حتى يتم الفصل في الدعوى بعدم دستورية القانون سالف الذكر فيما قضى به في المادة 119 منه من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين في القوات المسلحة والتي تصدر بالاستناد إلى تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة- إنما تكون قد علقت الفصل في النزاع الموضوعي على الفصل في الدفع بعدم دستورية قانون لم يكن محل اعتبار الجهة الإدارية عند إصدارها أمر الاستغناء المطعون فيه. ومن حيث إن هذا الدفع غير سديد إذ يستفاد من المستندات المقدمة من المدعى إلى المحكمة الإدارية ومن دفاع الحكومة في مختلف مراحل الخصومة الموضوعية أن أمر الاستغناء عن خدمة المدعى قد صدر بالاستناد إلى ما ارتأته اللجنة المشكلة في هيئة التنظيم والإدارة في القوات المسلحة من عدم صلاحيته لمهام القتال بالتطبيق لأحكام المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968؛ ولأن المحكمة العليا ليست جهة طعن بالنسبة إلى محكمة الموضوع وإنما هي جهة ذات اختصاص أصيل حدده قانون إنشائها ويتحدد هذا الاختصاص - في مجال الرقابة الدستورية - بما يبدي لدى محكمة الموضوع من دفوع بمخالفة الدستور تقدر محكمة الموضوع جديتها وتقدر المحكمة العليا توفر المصلحة في الفصل فيها ، ولا مراء في توفر المصلحة في الفصل في الدفع بعدم دستورية القانون رقم 106 لسنة 1964 المشار إليه فيما نص عليه في المادة 119 منه من اعتبار أوامر الاستغناء الصادرة بالاستناد إلى تلك المادة نهائية وغير قابلة للطعن أو المراجعة على أن هذا النص هو الأساس الذي استندت إليه الدائرة الاستئنافية بمحكمة القضاء الإداري في الحكم بعدم الاختصاص الولائي لمجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر النزاع الموضوع. ومن حيث إنه لذلك يكون الدفع بعدم قبول الدعوى غير قائم على أساس سليم متعيناً رفضه. عن الموضوع: من حيث إن المدعى ينعى على القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 - في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود بالقوات المسلحة - مخالفة الدستور فيما نص عليه في الفقرة الثانية من المادة 119 منه من اعتبار " أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة استناداً إلى الفقرة الأولى من تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة " ويقول - بياناً لذلك - إن الفقرة الثانية من المادة المذكورة تتعارض مع صريح نص المادة 68 من الدستور التي كفلت حق التقاضي للناس كافة وحظرت النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
ومن حيث إن المادة 68 من الدستور الدائم تنص على أن " التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء"، ويبين من هذا النص أن المشرع الدستوري لم يقف عند حد تقرير حق التقاضي للناس كافة - كمبدأ دستوري أصيل - بل جاوز ذلك إلى تقرير مبدأ حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، رغم دخول هذا المبدأ في عموم المبدأ الأول رغبة من المشرع في توكيد الرقابة القضائية على القرارات الإدارية وحسماً لما ثار من خلاف في شأن عدم دستورية التشريعات التي تحظر حق الطعن في هذه القرارات، وقد استقر قضاء هذه المحكمة على أن النص المشار إليه جاء كاشفاً للطبيعة الدستورية لحق التقاضي ومؤكداً لما أقرته الدساتير السابقة ضمناً من كفالة هذا الحق للأفراد حين خولتهم حقوقاً لا تقوم ولا تؤتي ثمارها إلا بقيامه، باعتباره الوسيلة التي تكفل حماية تلك الحقوق والتمتع بها ورد العدوان عنها، وباعتباره حقاً من الحقوق العامة بالنظر إلى ما يترتب على حرمان طائفة معينة منه مع تحقق مناطه - وهو قيام المنازعة في حق من حقوق أفرادها - من إهدار لمبدأ المساواة بينهم وبين غيرهم من المواطنين الذين لم يحرموا هذا الحق، وهو المبدأ الذي كفلته المادة 31 من دستور 1956، والمادة 7 من دستور 1958 ، والمادة 24 من دستور 1964، والمادة 40 من الدستور الدائم. ومن حيث إن الحكومة ذهبت في دفاعها إلى القول بأن الدستور الدائم لا يطبق بأثر رجعي على المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين التي صدرت قبل العمل به، وهذا الدفاع مردود ذلك أنه - فضلاً عن أن الدساتير السابقة على الدستور الدائم قد كفلت حق التقاضي ضمناً حسبماً سلف البيان- فإن رقابة دستورية القوانين - منذ عرفت في الدولة ذات الدساتير الجامدة - إنما تستهدف - أصلاً - صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه باعتبار أن نصوص هذا الدستور تمثل دائماً القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين مراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات بوصفها أسمى القواعد الآمرة. ومن حيث إن الحكومة استندت في دفاعها إلى القول بأن المادة 166 من دستور 1964 إذ قضت بأن " كل ما قررته القوانين والقرارات والأوامر واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى نافذاً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور" إنما ترمى إلى الإبقاء على التشريعات السابقة على دستور 1964 ولو تعارضت مع أحكامه، حتى تقوم السلطة التشريعية بإلغاء تلك التشريعات أو بتعديلها.
ومن حيث إن هذا الاستناد غير سديد لأن المشرع الدستوري لا يعني بتلك المادة سوى ما عناه بأصله الوارد في المادة 190 من دستور 1956 وما عناه بنص المادة 191 من الدستور الدائم، وهو مجرد استمرار نفاذ التشريعات السابقة على الدستور، تجنباً لحدوث فراغ تشريعي يؤدي إلى الاضطراب والإخلال بسير المرافق العام والعلاقات الاجتماعية إذا سقطت جميع التشريعات المخالفة له فور صدوره ، وذلك دون تطهير تلك التشريعات مما قد يشوبها من عيوب ودون تحصينها ضد الطعن بعدم الدستورية، شأنها في ذلك شأن التشريعات التي تصدر في ظل التشريع القائم إذ لا يسوغ أن تكون تلك التشريعات بمنأى عن الرقابة التي تخضع لها التشريعات التي تصدر في ظل الدستور القائم مع أن رقابة دستوريتها أولى وأوجب. ومن حيث إن الحكومة لجأت أخيراً إلى القول بأن القانون رقم 106 لسنة 1964 المطعون فيه بمخالفة الدستور لا يحظر حق التقاضي حظراً كاملاً مطلقاً، إذ اقتصر - فحسب- على المنع من دعوى الإلغاء دون دعوى التعويض. ومن حيث إن هذا القول مردود بما يأتي: أولاً : أن التقاضي - إلغاء وتعويضاً - هو حق دستوري أصيل أكده الدستور الدائم بنص صريح وأكدته الدساتير السابقة ضمناً حسبما سلف البيان، ولئن مضى حين من الدهر كانت فيه أعمال الإدارة المخالفة للقانون بمنجاة من الإلغاء ووقف التنفيذ، فإن مرد ذلك إلى أن مبدأ الشرعية لم يكن قد اكتمل له أخص عناصره، وهو الخضوع لرقابة القضاء، أما وقد اكتمل له هذا العنصر تبعاً لنمو النظام القانوني تدريجياً ونص في قانون إنشاء مجلس الدولة على سلطة هذا المجلس في إلغاء القرارات الإدارية المخالفة للقانون، ونص في الدستور الدائم - صراحة - على حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، فلن يسوغ- من بعد - أن تهدر تلك الرقابة بنص في القانون سواء شمل المنع دعوى الإلغاء ودعوى التعويض معاً أم اقتصر على دعوى الإلغاء فحسب، وإلا كان هذا النص مخالفاً للدستور. ثانياً : أن السلطة القضائية هي سلطة أصيلة تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتستمد وجودها وكيانها من الدستور ذاته لا من التشريع وقد ناط بها الدستور وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات ولازم ذلك أن المشرع لا يملك بتشريع منه إهدار ولاية تلك السلطة كليا أو جزئيا ولئن كان الدستور الدائم ينص في المادة 167 منه على أن " يحدد القانون الهيئات القضائية واختصاصاتها " فإن المقصود بذلك أن يتولى القانون توزيع ولاية القضاء كاملة على تلك الهيئات، تنظيماً لأداة استعمال السلطة القضائية وتمكيناً للأفراد من ممارسة حق التقاضي دون تعرض للسلطة القضائية في ذاتها أو عزل لجانب من المنازعات عن ولايتها ، فإن هو تجاوز هذا القيد الدستوري وانتقص من ولاية القضاء ولو جزئيا كان مخالفاً للدستور. ثالثا : أن مبدأ الشرعية وسيادة القانون ، وهو المبدأ الذي يوجب خضوع سلطات الدولة للقانون والتزام حدوده في كافة أعمالها وتصرفاتها هذا المبدأ لن ينتج أثره إلا بقيام مبدأ آخر يكمله ويعتبر ضرورياً مثله، لأن الإخلال به يؤدي بمبدأ المشروعية ويسلمه إلى العدم، ذلك هو مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين من جهة، وعلى مشروعية القرارات الإدارية من جهة أخرى، لأن هذه الرقابة القضائية هي المظهر العملي الفعال لحماية الشرعية، فهي التي تكفل تقييد السلطات العامة بقواعد القانون كما تكفل رد هذه السلطات إلى حدود المشروعية إن هي تجاوزت تلك الحدود . وغنى عن البيان أن أي تضييق في تلك الرقابة ولو اقتصر هذا التضييق على دعوى الإلغاء سوف يؤدي حتماً إلى الحد من مبدأ الشرعية وسيادة القانون، ولذا يتعين أن تقف سلطة المشرع إزاء حق التقاضي عند حد التنظيم فلا تجاوزه إلى الحظر أو الإهدار.
ومن حيث إنه يخلص مما تقدم أن القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 إذ يقضي في الفقرة الثانية من المادة 119 منه باعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين في القوات المسلحة الصادرة بالاستناد إلى الفقرة الأولى من تلك المادة نهائية لا تقبل الطعن أو المراجعة بينما هي في طبيعتها قرارات إدارية تمتنع على حظر الطعن، إنما ينطوي على مصادرة لحق هؤلاء المتطوعين - وهم موظفون عموميون - في الطعن في تلك القرارات أو التقاضي بشأنها بدعوى الإلغاء مما يخالف الماد ة68 من الدستور وذلك فضلاً عن إهداره مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق مما يخالف المادتين 40 ، 68 من الدستور وعلى مقتضى ذلك تكون تلك الفقرة مخالفة للدستور فيما تضمنته من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة بالاستناد إلى حكم الفقرة الأولى من تلك المادة نهائية لا تقبل الطعن أو المراجعة من ثم يتعين القضاء بعدم دستوريتها مع إلزام الحكومة المصروفات.
ولهذه الأسباب
حكمت المحكمة :
أولا : برفض الدفع بعدم قبول الدعوى. ثانياً : وفي الموضوع بعدم دستورية المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود في القوات المسلحة فيما نصت عليه من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة استناداً إلى أحكامها نهائية لا تقبل الطعن أو المراجعة ، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ ثلاثين جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة.
أمين السر رئيس المحكمة
مبادئ الحكم: الرقابة على دستورية القوانين - حق التقاضى - سلطة قضائية - قانون - مبدأ الشرعية وسيادة القانون
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة العليا بالجلسة العلنية المنعقدة 3 من أبريل سنة 1976. برئاسة السيد المستشار/ بدوي إبراهيم حمودة رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين/ محمد عبد الوهاب خليل وعادل عزيز زخاري وعمر حافظ شريف نواب رئيس المحكمة ومحمد بهجت عتيبة وأبو بكر محمد عطية ومحمد فهمي حسن عشري. أعضاء
وحضور السيد المستشار/ محمد كمال محفوظ المفوض
وحضور السيد/ سيد عبد الباري إبراهيم أمين السر
أصدرت الحكم الآتي في القضية المقيدة بجدول المحكمة العليا برقم 11 لسنة 5 قضائية "دستورية" المقامة من ......... ضد ..............
الوقائع
أقام المدعى الدعوى رقم 116 لسنة 16 ق أمام المحكمة الإدارية للمصالح العامة بالإسكندرية يطلب الحكم بإلغاء قرار فصله من الخدمة مع ما يترتب على ذلك من آثار. وقال بيانا لدعواه أنه التحق بخدمة إدارة السواحل جندياً متطوعاً بتاريخ 3 من فبراير سنة 1948 بعد أن وقع إقراراً يخول مدير إدارة السواحل في فصله من الخدمة في أي وقت دون أن يكون له الرجوع على تلك الإدارة بشيء ما. وبتاريخ 14 من يوليو سنة 1968 صدرت توجيهات وزير الحربية رقم 7 لسنة 1968 بحصر وإخلاء الأفراد غير الصالحين لعرضها على هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة للتصرف فيها وفقاً لحكم المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 في شأن الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود بالقوات المسلحة والتي تنص على ما يأتي: " يستغني عن خدمة المتطوع في إحدى الحالات الآتية: (أ) إذا ثبت عدم صلاحيته من الناحية الفنية أو العسكرية. (ب) إذا كان طالباً بإحدى المدارس العسكرية ولم يمض بنجاح مراحل الدراسة طبقاً لشروط تطوعه. (ج) إذا رأت ذلك هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة لأسباب تتصل بدواعي الصالح العام. وتكون أوامر الاستغناء بالاستناد إلى هذه المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو " المراجعة " وقد قامت إدارة السواحل بحصر الحالات التي تنطبق عليها تلك التوجيهات، ثم قامت لجنة من هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة بفحص هذه الحالات ورأت الاستغناء عن خدمة بعض الأفراد وكان هو (المدعى) منهم وذلك استناداً إلى حكم المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 سالفة البيان - لما تبين لها من التقارير المقدمة من فرع المخابرات الحربية بإدارة السواحل- من عدم صلاحيتهم لمهام القتال ، ومن ثم أصدر مدير إدارة السواحل استناداً إلى رأي تلك اللجنة أمراً بتاريخ 26 من نوفمبر سنة 1968 بالاستغناء عن خدمته اعتباراً من أول ديسمبر سنة 1968 لعدم صلاحيته لمهام القتال. وقد دفعت الحكومة أمام تلك المحكمة بعدم قبول الدعوى استناداً إلى حكم الفقرة الثانية من المادة 119 من القانون سالف الذكر والتي تنص على أن تكون أوامر الاستغناء الصادرة استناداً إلى هذه المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة. وبتاريخ 26 من يناير سنة 1970 حكمت المحكمة الإدارية برفض الدفع بعدم قبول الدعوى وبقبولها وفي الموضوع برفضها، وأقامت قضاءها برفض الدفع حسبما ورد في أسباب حكمها على أن الفقرة الثانية من المادة 119 المتقدم ذكرها لا تحظر التقاضي بشأن إلغاء أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين وإنما هي تعني - فحسب - اعتبار تلك الأوامر كاملة ونافذة بمجرد صدورها دون ما حاجة إلى التعقيب أو التصديق عليها من سلطة أعلى. وقد طعن المدعى في هذا الحكم أمام الدائرة الاستئنافية بمحكمة القضاء الإداري، وقيد طعنه برقم 1164 لسنة 2 س ق، ودفع أمام هذه الدائرة بعدم دستورية القانون رقم 106 لسنة 1964 المشار إليه فيما نص عليه في المادة 119 منه من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة بالاستناد إلى تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة، وأقام هذا الدفع على مخالفة هذا النص للمادة 68 من الدستور الدائم التي كفلت حق التقاضي للناس كافة وحظرت النص فى القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. وبتاريخ 15 من مارس سنة 1972 قضت الدائرة الاستئنافية بمحكمة القضاء الإداري بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه وبعدم اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري ولائياً بنظر الدعوى، وأقامت هذا القضاء - حسبما ورد في أسبابه - على أنه وإن كان الأصل في القرارات الإدارية النهائية الصادرة بإنهاء خدمة العاملين أن تقبل الطعن بالإلغاء إلا أن للمشرع أن يستثنى بعض هذه القرارات فيجعلها - بنص صريح في القانون - غير قابلة لهذا الطعن، وأن هذا هو ما فعله المشرع بالنسبة إلى أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين في القوات المسلحة، إذ نص في المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 سالف الذكر على هذا الاستثناء مما تنحسر معه ولاية القضاء الإداري عن رقابة هذه الأوامر بدعوى الإلغاء، ويغدو معه الدفع بعدم دستورية هذا القانون غير جدي. وقد طعنت هيئة مفوضي الدولة في هذا الحكم، أمام المحكمة الإدارية العليا طالبة إلغاءه والحكم بوقف السير في الخصومة وتحديد أجل للمدعى لرفع الدعوى بعدم دستورية القانون المتقدم ذكره أمام المحكمة العليا.
وبتاريخ 4 من مارس سنة 1974 قررت دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا وقف الفصل في الطعن وأمهلت المدعى ثلاثة أشهر لاتخاذ إجراءات رفع الدعوى أمام المحكمة العليا بعدم دستورية النص المشار إليه. وبصحيفة مودعة قلم كتاب المحكمة العليا بتاريخ أول يونيه سنة 1974 أقام المدعى هذه الدعوى بطريق المعافاة طالباً الحكم بعدم دستورية القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود في القوات المسلحة فيما نصت عليه المادة 119 منه على أن تكون أوامر الاستغناء الصادرة بالاستناد إلى تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة. وبجلسة 22 من مايو سنة 1975 تحضير أودعت الحكومة مذكرة دفعت فيها - أصلياً- بعدم قبول الدعوى، وطلبت فيها - احتياطيا- رفض الدعوى موضوعاً. وقدمت هيئة المفوضين تقريراً انتهت فيه إلى أنها ترى الحكم بقبول الدعوى شكلاً وفي الموضوع بعدم دستورية المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المشار إليه فيما نصت عليه من أوامر الاستغناء الصادرة بالاستناد إليها تكون نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة. وقد نظرت الدعوى بجلسة 6 من مارس سنة 1976 وفيها أرجأت المحكمة إصدار الحكم لجلسة اليوم حيث صدر الحكم على الوجه الآتي: المحكمة بعد الإطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات والمداولة. من حيث أن الدعوى استوفت الأوضاع المقررة قانوناً. عن الدفع بعدم قبول الدعوى: من حيث إن مبنى هذا الدفع أن أمر الاستغناء عن خدمة المدعى لم يصدر استناداً إلى أحكام الماد ة119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المطعون فيها بمخالفة الدستور، وإنما صدر استنادا إلى النص الوارد في إقرار التطوع الموقع من المدعى والذي يخول المدير العام لإدارة السواحل الحق في فصل المدعى من الخدمة في أي وقت دون أن يكون لهذا الأخير الحق في الرجوع على تلك الإدارة بشيء ما ، مما مفاده أن دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا - إذ رأت وقف السير في الخصومة الموضوعية حتى يتم الفصل في الدعوى بعدم دستورية القانون سالف الذكر فيما قضى به في المادة 119 منه من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين في القوات المسلحة والتي تصدر بالاستناد إلى تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة- إنما تكون قد علقت الفصل في النزاع الموضوعي على الفصل في الدفع بعدم دستورية قانون لم يكن محل اعتبار الجهة الإدارية عند إصدارها أمر الاستغناء المطعون فيه. ومن حيث إن هذا الدفع غير سديد إذ يستفاد من المستندات المقدمة من المدعى إلى المحكمة الإدارية ومن دفاع الحكومة في مختلف مراحل الخصومة الموضوعية أن أمر الاستغناء عن خدمة المدعى قد صدر بالاستناد إلى ما ارتأته اللجنة المشكلة في هيئة التنظيم والإدارة في القوات المسلحة من عدم صلاحيته لمهام القتال بالتطبيق لأحكام المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968؛ ولأن المحكمة العليا ليست جهة طعن بالنسبة إلى محكمة الموضوع وإنما هي جهة ذات اختصاص أصيل حدده قانون إنشائها ويتحدد هذا الاختصاص - في مجال الرقابة الدستورية - بما يبدي لدى محكمة الموضوع من دفوع بمخالفة الدستور تقدر محكمة الموضوع جديتها وتقدر المحكمة العليا توفر المصلحة في الفصل فيها ، ولا مراء في توفر المصلحة في الفصل في الدفع بعدم دستورية القانون رقم 106 لسنة 1964 المشار إليه فيما نص عليه في المادة 119 منه من اعتبار أوامر الاستغناء الصادرة بالاستناد إلى تلك المادة نهائية وغير قابلة للطعن أو المراجعة على أن هذا النص هو الأساس الذي استندت إليه الدائرة الاستئنافية بمحكمة القضاء الإداري في الحكم بعدم الاختصاص الولائي لمجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر النزاع الموضوع. ومن حيث إنه لذلك يكون الدفع بعدم قبول الدعوى غير قائم على أساس سليم متعيناً رفضه. عن الموضوع: من حيث إن المدعى ينعى على القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 - في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود بالقوات المسلحة - مخالفة الدستور فيما نص عليه في الفقرة الثانية من المادة 119 منه من اعتبار " أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة استناداً إلى الفقرة الأولى من تلك المادة نهائية ولا تقبل الطعن أو المراجعة " ويقول - بياناً لذلك - إن الفقرة الثانية من المادة المذكورة تتعارض مع صريح نص المادة 68 من الدستور التي كفلت حق التقاضي للناس كافة وحظرت النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
ومن حيث إن المادة 68 من الدستور الدائم تنص على أن " التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء"، ويبين من هذا النص أن المشرع الدستوري لم يقف عند حد تقرير حق التقاضي للناس كافة - كمبدأ دستوري أصيل - بل جاوز ذلك إلى تقرير مبدأ حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، رغم دخول هذا المبدأ في عموم المبدأ الأول رغبة من المشرع في توكيد الرقابة القضائية على القرارات الإدارية وحسماً لما ثار من خلاف في شأن عدم دستورية التشريعات التي تحظر حق الطعن في هذه القرارات، وقد استقر قضاء هذه المحكمة على أن النص المشار إليه جاء كاشفاً للطبيعة الدستورية لحق التقاضي ومؤكداً لما أقرته الدساتير السابقة ضمناً من كفالة هذا الحق للأفراد حين خولتهم حقوقاً لا تقوم ولا تؤتي ثمارها إلا بقيامه، باعتباره الوسيلة التي تكفل حماية تلك الحقوق والتمتع بها ورد العدوان عنها، وباعتباره حقاً من الحقوق العامة بالنظر إلى ما يترتب على حرمان طائفة معينة منه مع تحقق مناطه - وهو قيام المنازعة في حق من حقوق أفرادها - من إهدار لمبدأ المساواة بينهم وبين غيرهم من المواطنين الذين لم يحرموا هذا الحق، وهو المبدأ الذي كفلته المادة 31 من دستور 1956، والمادة 7 من دستور 1958 ، والمادة 24 من دستور 1964، والمادة 40 من الدستور الدائم. ومن حيث إن الحكومة ذهبت في دفاعها إلى القول بأن الدستور الدائم لا يطبق بأثر رجعي على المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين التي صدرت قبل العمل به، وهذا الدفاع مردود ذلك أنه - فضلاً عن أن الدساتير السابقة على الدستور الدائم قد كفلت حق التقاضي ضمناً حسبماً سلف البيان- فإن رقابة دستورية القوانين - منذ عرفت في الدولة ذات الدساتير الجامدة - إنما تستهدف - أصلاً - صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه باعتبار أن نصوص هذا الدستور تمثل دائماً القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين مراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات بوصفها أسمى القواعد الآمرة. ومن حيث إن الحكومة استندت في دفاعها إلى القول بأن المادة 166 من دستور 1964 إذ قضت بأن " كل ما قررته القوانين والقرارات والأوامر واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى نافذاً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور" إنما ترمى إلى الإبقاء على التشريعات السابقة على دستور 1964 ولو تعارضت مع أحكامه، حتى تقوم السلطة التشريعية بإلغاء تلك التشريعات أو بتعديلها.
ومن حيث إن هذا الاستناد غير سديد لأن المشرع الدستوري لا يعني بتلك المادة سوى ما عناه بأصله الوارد في المادة 190 من دستور 1956 وما عناه بنص المادة 191 من الدستور الدائم، وهو مجرد استمرار نفاذ التشريعات السابقة على الدستور، تجنباً لحدوث فراغ تشريعي يؤدي إلى الاضطراب والإخلال بسير المرافق العام والعلاقات الاجتماعية إذا سقطت جميع التشريعات المخالفة له فور صدوره ، وذلك دون تطهير تلك التشريعات مما قد يشوبها من عيوب ودون تحصينها ضد الطعن بعدم الدستورية، شأنها في ذلك شأن التشريعات التي تصدر في ظل التشريع القائم إذ لا يسوغ أن تكون تلك التشريعات بمنأى عن الرقابة التي تخضع لها التشريعات التي تصدر في ظل الدستور القائم مع أن رقابة دستوريتها أولى وأوجب. ومن حيث إن الحكومة لجأت أخيراً إلى القول بأن القانون رقم 106 لسنة 1964 المطعون فيه بمخالفة الدستور لا يحظر حق التقاضي حظراً كاملاً مطلقاً، إذ اقتصر - فحسب- على المنع من دعوى الإلغاء دون دعوى التعويض. ومن حيث إن هذا القول مردود بما يأتي: أولاً : أن التقاضي - إلغاء وتعويضاً - هو حق دستوري أصيل أكده الدستور الدائم بنص صريح وأكدته الدساتير السابقة ضمناً حسبما سلف البيان، ولئن مضى حين من الدهر كانت فيه أعمال الإدارة المخالفة للقانون بمنجاة من الإلغاء ووقف التنفيذ، فإن مرد ذلك إلى أن مبدأ الشرعية لم يكن قد اكتمل له أخص عناصره، وهو الخضوع لرقابة القضاء، أما وقد اكتمل له هذا العنصر تبعاً لنمو النظام القانوني تدريجياً ونص في قانون إنشاء مجلس الدولة على سلطة هذا المجلس في إلغاء القرارات الإدارية المخالفة للقانون، ونص في الدستور الدائم - صراحة - على حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، فلن يسوغ- من بعد - أن تهدر تلك الرقابة بنص في القانون سواء شمل المنع دعوى الإلغاء ودعوى التعويض معاً أم اقتصر على دعوى الإلغاء فحسب، وإلا كان هذا النص مخالفاً للدستور. ثانياً : أن السلطة القضائية هي سلطة أصيلة تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتستمد وجودها وكيانها من الدستور ذاته لا من التشريع وقد ناط بها الدستور وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات ولازم ذلك أن المشرع لا يملك بتشريع منه إهدار ولاية تلك السلطة كليا أو جزئيا ولئن كان الدستور الدائم ينص في المادة 167 منه على أن " يحدد القانون الهيئات القضائية واختصاصاتها " فإن المقصود بذلك أن يتولى القانون توزيع ولاية القضاء كاملة على تلك الهيئات، تنظيماً لأداة استعمال السلطة القضائية وتمكيناً للأفراد من ممارسة حق التقاضي دون تعرض للسلطة القضائية في ذاتها أو عزل لجانب من المنازعات عن ولايتها ، فإن هو تجاوز هذا القيد الدستوري وانتقص من ولاية القضاء ولو جزئيا كان مخالفاً للدستور. ثالثا : أن مبدأ الشرعية وسيادة القانون ، وهو المبدأ الذي يوجب خضوع سلطات الدولة للقانون والتزام حدوده في كافة أعمالها وتصرفاتها هذا المبدأ لن ينتج أثره إلا بقيام مبدأ آخر يكمله ويعتبر ضرورياً مثله، لأن الإخلال به يؤدي بمبدأ المشروعية ويسلمه إلى العدم، ذلك هو مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين من جهة، وعلى مشروعية القرارات الإدارية من جهة أخرى، لأن هذه الرقابة القضائية هي المظهر العملي الفعال لحماية الشرعية، فهي التي تكفل تقييد السلطات العامة بقواعد القانون كما تكفل رد هذه السلطات إلى حدود المشروعية إن هي تجاوزت تلك الحدود . وغنى عن البيان أن أي تضييق في تلك الرقابة ولو اقتصر هذا التضييق على دعوى الإلغاء سوف يؤدي حتماً إلى الحد من مبدأ الشرعية وسيادة القانون، ولذا يتعين أن تقف سلطة المشرع إزاء حق التقاضي عند حد التنظيم فلا تجاوزه إلى الحظر أو الإهدار.
ومن حيث إنه يخلص مما تقدم أن القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 إذ يقضي في الفقرة الثانية من المادة 119 منه باعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين في القوات المسلحة الصادرة بالاستناد إلى الفقرة الأولى من تلك المادة نهائية لا تقبل الطعن أو المراجعة بينما هي في طبيعتها قرارات إدارية تمتنع على حظر الطعن، إنما ينطوي على مصادرة لحق هؤلاء المتطوعين - وهم موظفون عموميون - في الطعن في تلك القرارات أو التقاضي بشأنها بدعوى الإلغاء مما يخالف الماد ة68 من الدستور وذلك فضلاً عن إهداره مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق مما يخالف المادتين 40 ، 68 من الدستور وعلى مقتضى ذلك تكون تلك الفقرة مخالفة للدستور فيما تضمنته من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة بالاستناد إلى حكم الفقرة الأولى من تلك المادة نهائية لا تقبل الطعن أو المراجعة من ثم يتعين القضاء بعدم دستوريتها مع إلزام الحكومة المصروفات.
ولهذه الأسباب
حكمت المحكمة :
أولا : برفض الدفع بعدم قبول الدعوى. ثانياً : وفي الموضوع بعدم دستورية المادة 119 من القانون رقم 106 لسنة 1964 المعدل بالقانون رقم 31 لسنة 1968 في شأن شروط الخدمة والترقية لضباط الشرف والمساعدين وضباط الصف والجنود في القوات المسلحة فيما نصت عليه من اعتبار أوامر الاستغناء عن خدمة المتطوعين الصادرة استناداً إلى أحكامها نهائية لا تقبل الطعن أو المراجعة ، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ ثلاثين جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة.
أمين السر رئيس المحكمة