نبى الله (صــــالح )علية السلام
في منطقة الحِجْر التي تقع بين الحجاز والشام، والتي تسمى الآن ( بمدائن صالح ) كانت تعيش قبيلة مشهورة تسمى ثمود، يرجع أصلها إلى سام بن نوح، وكانت لهم حضارة عمرانية واضحة المعالم، فقد نحتوا الجبال واتخذوها بيوتًا، يسكنون فيها في الشتاء؛ لتحميهم من الأمطار والعواصف التي تأتي إليهم من حين لآخر واتخذوا من السهول قصورًا يقيمون فيها في الصيف.
وأنعم الله -عز وجل- عليهم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، فأعطاهم الأرض الخصبة، والماء العذب الغزير، والحدائق والنخيل، والزروع والثمار، ولكنهم قابلوا النعمة بالجحود والنكران، فكفروا بالله -سبحانه- ولم يشكروه على نعمه وعبدوا الأصنام، وجعلوها شريكة لله، وقدَّموا إليها القرابين، وذبحوا لها الذبائح وتضرعوا لها، وأخذوا يدعونها، فأراد الله هدايتهم، فأرسل إليهم نبيًّا منهم، هو صالح -عليه السلام- وكان رجلاً كريمًا تقيًّا محبوبًا لديهم.
وبدأ صالح يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام، فقال لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف:73] فرفض قومه ذلك، وقالوا له: يا صالح قد كنت بيننا رجلا فاضلاً كريمًا محبوبًا نستشيرك في جميع أمورنا لعلمك وعقلك وصدقك، فماذا حدث لك؟! وقال رجل من القوم: يا صالح ما الذي دعاك لأن تأمرنا أن نترك ديننا الذي وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا، ونتبع دينًا جديدًا ؟! وقال آخر: يا صالح قد خاب رجاؤنا فيك، وصِرْتَ في رأينا رجلا مختلَّ التفكير.
كل هذه الاتهامات وجهت لنبي الله صالح -عليه السلام- فلم يقابل إساءتهم له بإساءة مثلها، ولم ييأس من استهزائهم به وعدم استجابتهم له، بل ظل يتمسك بدين الله رغم كلامهم، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويذكِّرهم بما حدث للأمم التي قبلهم، وما حلَّ بهم من العذاب بسبب كفرهم وعنادهم، فقال لهم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [الأعراف: 74] ثم أخذ صالح يذكِّرهم بنعم الله عليهم، فقال لهم: {أتتركون في ما هاهنا آمنين . في جنات وعيون . وزروع ونخيل طلعها هضيم} [الشعراء:146-148].
ثم أراد أن يبين لهم الطريق الصحيح لعبادة الله، وأنهم لو استغفروا الله وتابوا إليه فإن الله سيقبل توبتهم، فقال : {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} [هود: 61] فآمنت به طائفة من الفقراء والمساكين، وكفرت طائفة الأغنياء، واستكبروا وكذبوه، وقالوا: {أبشرًا منا واحدًا نتبعه إنا إذًا لفي ضلال وسعر . أؤلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر} [القمر: 24-25].
وحاولت الفئة الكافرة ذات يوم أن تصرف الذين آمنوا بصالح عن دينهم وتجعلهم يشكون في رسالته، فقالوا لهم: {أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه} _[الأعراف:75] أي: هل تأكدتم أنه رسول من عند الله؟ فأعلنت الفئة المؤمنة تمسكها بما أُنْزِلَ على صالح وبما جاء به من ربه، وقالوا: {إنا بما أرسل به مؤمنون} [الأعراف: 75] فأصرَّت الفئة الكافرة على ضلالها وقالوا معلنين كفرهم وضلالهم: {إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف: 76]
ولما رأى صالح -عليه السلام- إصرارهم على الضلال والكفر قال لهم: {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} [هود: 63].
وكان صالح -عليه السلام- يخاطب قومه بأخلاق الداعي الكريمة، وآدابه الرفيعة ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة تارة، ويجادلهم تارة أخرى في موضع الجدال، مؤكدًا على أن عبادة الله هي الحق، والطريق المستقيم. ولكن قومه تمادوا في كفرهم، وأخذوا يدبرون له المكائد والحيل حتى لا يؤمن به أكثر الناس، وذات يوم كان صالح -عليه السلام- يدعوهم إلى عبادة الله، ويبين لهم نعم الله الكثيرة، وأنه يجب شكره وحمده عليها، فقالوا له: يا صالح ما أنت إلا بشر مثلنا، وإذا كنت تدعي أنك رسول الله، فلابد أن تأتينا بمعجزة وآية.
فسألهم صالح -عليه السلام- عن المعجزة التي يريدونها، فأشاروا على صخرة بجوارهم، وقالوا له: أخْرِجْ لنا من هذه الصخرة ناقة طويلة عُشَراء، وأخذوا يصفون الناقة المطلوبة ويعددون صفاتها، حتى يعجز صالح عن تحقيق طلبهم، فقال لهم صالح: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بي وتصدقونني وتعبدون الله الذي خلقكم؟ فقالوا له: نعم، وعاهدوه على ذلك، فقام صالح -عليه السلام- وصلى لله -سبحانه- ثم دعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا.
وبعد لحظات حدثت المعجزة، فخرجت الناقة العظيمة من الصخرة التي أشاروا إليها، فكانت برهانًا ساطعًا، ودليلاً قويًّا على نبوة صالح، ولما رأى قوم صالح هذه الناقة بمنظرها الهائل آمن بعض قومه، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم، ثم أوحى الله إلى صالح أن يأمر قومه بأن لا يتعرضوا للناقة بسوء، فقال لهم صالح: {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} [الأعراف: 73].
واستمر الحال على هذا وقتًا طويلاً، والناقة تشرب ماء البئر يومًا، ويشربون هم يومًا، وفي اليوم الذي تشرب ولا يشربون كانوا يحلبونها فتعطيهم لبنًا يكفيهم جميعًا، لكن الشيطان أغواهم، فزين لهم طريق الشر، وتجاهلوا تحذير صالح لهم فاتفقوا على قتل الناقة، وكان عدد الذين أجمعوا على قتل الناقة تسعة أفراد، قال تعالى: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} [النمل: 48] ثم اتفقوا مع باقي القوم على تنفيذ مؤامرتهم، وقد تولى القيام بهذا الأمر أشقاهم وأكثرهم فسادًا، وقيل اسمه قدار بن سالف..
وفي الصباح، تجمع قوم صالح في مكان فسيح ينتظرون مرور الناقة لتنفيذ مؤامرتهم، وبعد لحظات مرت الناقة العظيمة فتقدم أحدهم منها، وضربها بسهم حاد أصابها في ساقها، فوقعت على الأرض، فضربها قدار بن سالف بالسيف حتى ماتت، وعلم صالح بما فعل قومه الذين أصروا على السخرية منه
والاستهزاء به، وأوحى الله إليه أن العذاب سوف ينزل بقومه بعد ثلاثة أيام، فقال صالح -عليه السلام- لهم: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود:65] ولكن القوم كذبوه واستمروا في سخريتهم منه والاستهزاء به، ولما دخل الليل اجتمعت الفئة الكافرة من قوم صالح، وأخذوا يتشاورون في قتل صالح، حتى يتخلصوا منه مثلما تخلصوا من الناقة، ولكن الله -عز وجل- عَجَّلَ العذاب لهؤلاء المفسدين التسعة، فأرسل عليهم حجارة أصابتهم وأهلكتهم..
ومرت الأيام الثلاثة، وخرج الكافرون في صباح اليوم الثالث ينتظرون ما سيحل عليهم من العذاب والنكال، وفي لحظات جاءتهم صيحة شديدة من السماء، وهزة عنيفة من أسفلهم، فزهقت أرواحهم، وأصبحوا في دارهم هالكين مصروعين.. قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} [النمل: 52-53] وهكذا أهلك الله -عز وجل- قوم صالح بسبب كفرهم وعنادهم وقتلهم لناقة الله، والاستهزاء بنبيهم صالح -عليه السلام- وعدم إيمانهم به، وبعد أن أهلك الله الكافرين من ثمود، وقف صالح -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين ينظرون إليهم، فقال صالح -عليه السلام- : {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} _[الأعراف: 79].
ولقد مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- على ديار ثمود (المعروفة الآن بمدائن صالح) وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع من الهجرة، فأمر أصحابه أن يمروا عليها خاشعين خائفين، كراهة أن يصيبهم ما أصاب أهلها، وأمرهم بعدم دخول القرية الظالمة وعدم الشرب من مائها. [متفق عليه].
نبى اللــه (لـــوط )علية السلام
هاجر لوط مع عمه إبراهيم -عليه السلام- إلى مصر، ومكثا فيها مدة من الزمن ثم عادا إلى فلسطين، وفي الطريق، استأذن لوط عمه إبراهيم، ليذهب إلى أرض سدوم (بجوار البحر الميت في بلاد الأردن الآن) حيث اختار الله لوطًا ليكون نبيًّا إلى أهل هذه الأرض، فأذن له إبراهيم وذهب لوط إلى سدوم وتزوج هناك.
وكانت أخلاق أهل تلك البلدة سيئة، فكانوا لا يتعففون عن فعل المعصية، ولا يستحيون من المنكر، ويخونون الرفيق، ويقطعون الطريق، وفوق هذا كانوا يفعلون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ فكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وأخذ لوط -عليه السلام- يدعو أهل سدوم إلى الإيمان وترك الفاحشة، فقال لهم: {ألا تتقون . إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتأتون الذكران من العالمين . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} [الشعراء: 161-166].
لكن قوم لوط لم يستجيبوا له، وتكبروا عليه، وسخروا منه، فلم ييأس لوط وظل صابرًا على قومه يدعوهم في حكمة وأدب إلى عبادة الله وحده، وينهاهم ويحذرهم أشد التحذير من إتيان المحرمات وفعل الفواحش والمنكرات، ومع هذا لم يؤمن به أحد واستمر الناس في ضلالهم وطغيانهم وفجورهم، وقالوا له بقلوب قاسية: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} [العنكبوت:29] وهددوه بطرده من القرية لأنه كان غريبًا في قومه، فغضب لوط من قومه وابتعد عنهم هو ومن آمن به من أهل بيته إلا زوجته، فقد كفرت وانحازت إلى قومها وشاركتهم في مضايقته والاستهزاء به، وضرب الله بها مثلاً في الكفر، فقال تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئًا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} [التحريم:10] وخيانة امرأة لوط هي كفرها وعدم إيمانها بالله.
وأرسل الله ثلاثة من الملائكة على صورة ثلاثة رجال هيئتهم حسنة، فمروا على إبراهيم ، فظن إبراهيم أنهم بشر فقام على الفور وذبح لهم عجلاً سمينًا لكنهم لم يأكلوا منه، وبشرت الملائكة إبراهيم بأن الله -سبحانه- سوف يرزقه بولد من زوجته سارة هو إسحاق، ثم أخبرته الملائكة أنهم ذاهبون إلى قرية سدوم لتعذيب أهلها وعقابهم على كفرهم ومعاصيهم، فأخبرهم إبراهيم بوجود لوط في هذه القرية، فطمأنته الملائكة بأن الله سينجيه وأهله إلا زوجته لأنها كفرت بالله.
وخرجت الملائكة من عند إبراهيم وتوجهوا إلى قرية سدوم، فوصلوا إلى بيت لوط وكانوا في صورة شبان حسان، فلما رآهم لوط خاف عليهم، ولم يعلم أحد بقدومهم إلا آل لوط، فخرجت امرأته وأخبرت قومها وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط، فجاء القوم يسرعون إلى بيت لوط يبغون الفاحشة مع هؤلاء الضيوف، واجتمع قوم لوط وازدحموا عند باب بيته وهم ينادون بصوت عالٍ يطلبوا من لوط أن يخرج لهم هؤلاء الضيوف، وكل منهم يمني نفسه بالمتعة والشهوة الحرام مع هؤلاء الرجال، فمنعهم لوط من دخول البيت ومن الهجوم والاعتداء على ضيوفه، وقال لهم: {إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون . واتقوا الله ولا تخزون} [الحجر:68-69] وأخذ يذكرهم بأن الله خلق النساء لقضاء شهوة الرجال فهن أزكى لهم وأطيب، ولكن قوم لوط أصروا على الدخول، ولم يجد لوط من بينهم رجلاً عاقلاً يبين لهم ما هم فيه من الخطأ وأحس لوط بضعفه أمام هؤلاء القوم، فقال: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود:80].
وعندئذ كشف الضيوف عن حقيقتهم، وأخبروا لوطًا بأنهم ليسوا بشرًا وإنما هم ملائكة من السماء جاءوا لتعذيب هؤلاء القوم الفاسقين، وما هي إلا لحظات حتى اقتحم قوم لوط البيت على الملائكة فأشار أحد الملائكة، بيده ناحيتهم ففقد القوم أبصارهم وراحوا يتخبطون بين الجدران، ثم طلبت الملائكة من لوط أن يرحل مع أهله عندما يقبل الليل لأن العذاب سينزل على قومه في الصباح، ونصحوه ألا يلتفت هو ولا أحد من أهله خلفهم عندما ينزل العذاب حتى لا يصيبهم.
وفي الليل خرج لوط وابنتاه وتركوا القرية، وما إن غادروها حتى انشق الصباح فأرسل الله العذاب الشديد على قرية سدوم، فاهتزت القرية هزة عنيفة وتزلزلت الأرض، واقتلع مَلَكٌ بطرف جناحه القرية بما فيها وارتفع بها حتى سمع أهل السماء نباح كلابها ثم انقلبت القرية رأسًا على عقب، وجعل الله عاليها سافلها وأمطر عليهم من السماء حجارة ملتهبة تحرقهم ، وأحاط بهم دخان خانق يشوي وجوههم وأجسامهم.
قال تعالى: {فلما جاءنا أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود . مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} [هود:82-83] ونجَّى الله لوطاً وابنتيه برحمة منه سبحانه، لأنهم حفظوا العهد، وشكروا النعمة وعبدوا الله الواحد الأحد وكانوا خير مثال للعفة والطهارة، وأصبحت قرية سدوم عبرة وعظة لكل الأجيال القادمة، قال تعالى: { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } [الذاريات:37
في منطقة الحِجْر التي تقع بين الحجاز والشام، والتي تسمى الآن ( بمدائن صالح ) كانت تعيش قبيلة مشهورة تسمى ثمود، يرجع أصلها إلى سام بن نوح، وكانت لهم حضارة عمرانية واضحة المعالم، فقد نحتوا الجبال واتخذوها بيوتًا، يسكنون فيها في الشتاء؛ لتحميهم من الأمطار والعواصف التي تأتي إليهم من حين لآخر واتخذوا من السهول قصورًا يقيمون فيها في الصيف.
وأنعم الله -عز وجل- عليهم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، فأعطاهم الأرض الخصبة، والماء العذب الغزير، والحدائق والنخيل، والزروع والثمار، ولكنهم قابلوا النعمة بالجحود والنكران، فكفروا بالله -سبحانه- ولم يشكروه على نعمه وعبدوا الأصنام، وجعلوها شريكة لله، وقدَّموا إليها القرابين، وذبحوا لها الذبائح وتضرعوا لها، وأخذوا يدعونها، فأراد الله هدايتهم، فأرسل إليهم نبيًّا منهم، هو صالح -عليه السلام- وكان رجلاً كريمًا تقيًّا محبوبًا لديهم.
وبدأ صالح يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام، فقال لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف:73] فرفض قومه ذلك، وقالوا له: يا صالح قد كنت بيننا رجلا فاضلاً كريمًا محبوبًا نستشيرك في جميع أمورنا لعلمك وعقلك وصدقك، فماذا حدث لك؟! وقال رجل من القوم: يا صالح ما الذي دعاك لأن تأمرنا أن نترك ديننا الذي وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا، ونتبع دينًا جديدًا ؟! وقال آخر: يا صالح قد خاب رجاؤنا فيك، وصِرْتَ في رأينا رجلا مختلَّ التفكير.
كل هذه الاتهامات وجهت لنبي الله صالح -عليه السلام- فلم يقابل إساءتهم له بإساءة مثلها، ولم ييأس من استهزائهم به وعدم استجابتهم له، بل ظل يتمسك بدين الله رغم كلامهم، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويذكِّرهم بما حدث للأمم التي قبلهم، وما حلَّ بهم من العذاب بسبب كفرهم وعنادهم، فقال لهم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [الأعراف: 74] ثم أخذ صالح يذكِّرهم بنعم الله عليهم، فقال لهم: {أتتركون في ما هاهنا آمنين . في جنات وعيون . وزروع ونخيل طلعها هضيم} [الشعراء:146-148].
ثم أراد أن يبين لهم الطريق الصحيح لعبادة الله، وأنهم لو استغفروا الله وتابوا إليه فإن الله سيقبل توبتهم، فقال : {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} [هود: 61] فآمنت به طائفة من الفقراء والمساكين، وكفرت طائفة الأغنياء، واستكبروا وكذبوه، وقالوا: {أبشرًا منا واحدًا نتبعه إنا إذًا لفي ضلال وسعر . أؤلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر} [القمر: 24-25].
وحاولت الفئة الكافرة ذات يوم أن تصرف الذين آمنوا بصالح عن دينهم وتجعلهم يشكون في رسالته، فقالوا لهم: {أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه} _[الأعراف:75] أي: هل تأكدتم أنه رسول من عند الله؟ فأعلنت الفئة المؤمنة تمسكها بما أُنْزِلَ على صالح وبما جاء به من ربه، وقالوا: {إنا بما أرسل به مؤمنون} [الأعراف: 75] فأصرَّت الفئة الكافرة على ضلالها وقالوا معلنين كفرهم وضلالهم: {إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف: 76]
ولما رأى صالح -عليه السلام- إصرارهم على الضلال والكفر قال لهم: {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} [هود: 63].
وكان صالح -عليه السلام- يخاطب قومه بأخلاق الداعي الكريمة، وآدابه الرفيعة ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة تارة، ويجادلهم تارة أخرى في موضع الجدال، مؤكدًا على أن عبادة الله هي الحق، والطريق المستقيم. ولكن قومه تمادوا في كفرهم، وأخذوا يدبرون له المكائد والحيل حتى لا يؤمن به أكثر الناس، وذات يوم كان صالح -عليه السلام- يدعوهم إلى عبادة الله، ويبين لهم نعم الله الكثيرة، وأنه يجب شكره وحمده عليها، فقالوا له: يا صالح ما أنت إلا بشر مثلنا، وإذا كنت تدعي أنك رسول الله، فلابد أن تأتينا بمعجزة وآية.
فسألهم صالح -عليه السلام- عن المعجزة التي يريدونها، فأشاروا على صخرة بجوارهم، وقالوا له: أخْرِجْ لنا من هذه الصخرة ناقة طويلة عُشَراء، وأخذوا يصفون الناقة المطلوبة ويعددون صفاتها، حتى يعجز صالح عن تحقيق طلبهم، فقال لهم صالح: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بي وتصدقونني وتعبدون الله الذي خلقكم؟ فقالوا له: نعم، وعاهدوه على ذلك، فقام صالح -عليه السلام- وصلى لله -سبحانه- ثم دعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا.
وبعد لحظات حدثت المعجزة، فخرجت الناقة العظيمة من الصخرة التي أشاروا إليها، فكانت برهانًا ساطعًا، ودليلاً قويًّا على نبوة صالح، ولما رأى قوم صالح هذه الناقة بمنظرها الهائل آمن بعض قومه، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم، ثم أوحى الله إلى صالح أن يأمر قومه بأن لا يتعرضوا للناقة بسوء، فقال لهم صالح: {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} [الأعراف: 73].
واستمر الحال على هذا وقتًا طويلاً، والناقة تشرب ماء البئر يومًا، ويشربون هم يومًا، وفي اليوم الذي تشرب ولا يشربون كانوا يحلبونها فتعطيهم لبنًا يكفيهم جميعًا، لكن الشيطان أغواهم، فزين لهم طريق الشر، وتجاهلوا تحذير صالح لهم فاتفقوا على قتل الناقة، وكان عدد الذين أجمعوا على قتل الناقة تسعة أفراد، قال تعالى: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} [النمل: 48] ثم اتفقوا مع باقي القوم على تنفيذ مؤامرتهم، وقد تولى القيام بهذا الأمر أشقاهم وأكثرهم فسادًا، وقيل اسمه قدار بن سالف..
وفي الصباح، تجمع قوم صالح في مكان فسيح ينتظرون مرور الناقة لتنفيذ مؤامرتهم، وبعد لحظات مرت الناقة العظيمة فتقدم أحدهم منها، وضربها بسهم حاد أصابها في ساقها، فوقعت على الأرض، فضربها قدار بن سالف بالسيف حتى ماتت، وعلم صالح بما فعل قومه الذين أصروا على السخرية منه
والاستهزاء به، وأوحى الله إليه أن العذاب سوف ينزل بقومه بعد ثلاثة أيام، فقال صالح -عليه السلام- لهم: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود:65] ولكن القوم كذبوه واستمروا في سخريتهم منه والاستهزاء به، ولما دخل الليل اجتمعت الفئة الكافرة من قوم صالح، وأخذوا يتشاورون في قتل صالح، حتى يتخلصوا منه مثلما تخلصوا من الناقة، ولكن الله -عز وجل- عَجَّلَ العذاب لهؤلاء المفسدين التسعة، فأرسل عليهم حجارة أصابتهم وأهلكتهم..
ومرت الأيام الثلاثة، وخرج الكافرون في صباح اليوم الثالث ينتظرون ما سيحل عليهم من العذاب والنكال، وفي لحظات جاءتهم صيحة شديدة من السماء، وهزة عنيفة من أسفلهم، فزهقت أرواحهم، وأصبحوا في دارهم هالكين مصروعين.. قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} [النمل: 52-53] وهكذا أهلك الله -عز وجل- قوم صالح بسبب كفرهم وعنادهم وقتلهم لناقة الله، والاستهزاء بنبيهم صالح -عليه السلام- وعدم إيمانهم به، وبعد أن أهلك الله الكافرين من ثمود، وقف صالح -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين ينظرون إليهم، فقال صالح -عليه السلام- : {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} _[الأعراف: 79].
ولقد مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- على ديار ثمود (المعروفة الآن بمدائن صالح) وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع من الهجرة، فأمر أصحابه أن يمروا عليها خاشعين خائفين، كراهة أن يصيبهم ما أصاب أهلها، وأمرهم بعدم دخول القرية الظالمة وعدم الشرب من مائها. [متفق عليه].
نبى اللــه (لـــوط )علية السلام
هاجر لوط مع عمه إبراهيم -عليه السلام- إلى مصر، ومكثا فيها مدة من الزمن ثم عادا إلى فلسطين، وفي الطريق، استأذن لوط عمه إبراهيم، ليذهب إلى أرض سدوم (بجوار البحر الميت في بلاد الأردن الآن) حيث اختار الله لوطًا ليكون نبيًّا إلى أهل هذه الأرض، فأذن له إبراهيم وذهب لوط إلى سدوم وتزوج هناك.
وكانت أخلاق أهل تلك البلدة سيئة، فكانوا لا يتعففون عن فعل المعصية، ولا يستحيون من المنكر، ويخونون الرفيق، ويقطعون الطريق، وفوق هذا كانوا يفعلون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ فكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وأخذ لوط -عليه السلام- يدعو أهل سدوم إلى الإيمان وترك الفاحشة، فقال لهم: {ألا تتقون . إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتأتون الذكران من العالمين . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} [الشعراء: 161-166].
لكن قوم لوط لم يستجيبوا له، وتكبروا عليه، وسخروا منه، فلم ييأس لوط وظل صابرًا على قومه يدعوهم في حكمة وأدب إلى عبادة الله وحده، وينهاهم ويحذرهم أشد التحذير من إتيان المحرمات وفعل الفواحش والمنكرات، ومع هذا لم يؤمن به أحد واستمر الناس في ضلالهم وطغيانهم وفجورهم، وقالوا له بقلوب قاسية: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} [العنكبوت:29] وهددوه بطرده من القرية لأنه كان غريبًا في قومه، فغضب لوط من قومه وابتعد عنهم هو ومن آمن به من أهل بيته إلا زوجته، فقد كفرت وانحازت إلى قومها وشاركتهم في مضايقته والاستهزاء به، وضرب الله بها مثلاً في الكفر، فقال تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئًا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} [التحريم:10] وخيانة امرأة لوط هي كفرها وعدم إيمانها بالله.
وأرسل الله ثلاثة من الملائكة على صورة ثلاثة رجال هيئتهم حسنة، فمروا على إبراهيم ، فظن إبراهيم أنهم بشر فقام على الفور وذبح لهم عجلاً سمينًا لكنهم لم يأكلوا منه، وبشرت الملائكة إبراهيم بأن الله -سبحانه- سوف يرزقه بولد من زوجته سارة هو إسحاق، ثم أخبرته الملائكة أنهم ذاهبون إلى قرية سدوم لتعذيب أهلها وعقابهم على كفرهم ومعاصيهم، فأخبرهم إبراهيم بوجود لوط في هذه القرية، فطمأنته الملائكة بأن الله سينجيه وأهله إلا زوجته لأنها كفرت بالله.
وخرجت الملائكة من عند إبراهيم وتوجهوا إلى قرية سدوم، فوصلوا إلى بيت لوط وكانوا في صورة شبان حسان، فلما رآهم لوط خاف عليهم، ولم يعلم أحد بقدومهم إلا آل لوط، فخرجت امرأته وأخبرت قومها وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط، فجاء القوم يسرعون إلى بيت لوط يبغون الفاحشة مع هؤلاء الضيوف، واجتمع قوم لوط وازدحموا عند باب بيته وهم ينادون بصوت عالٍ يطلبوا من لوط أن يخرج لهم هؤلاء الضيوف، وكل منهم يمني نفسه بالمتعة والشهوة الحرام مع هؤلاء الرجال، فمنعهم لوط من دخول البيت ومن الهجوم والاعتداء على ضيوفه، وقال لهم: {إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون . واتقوا الله ولا تخزون} [الحجر:68-69] وأخذ يذكرهم بأن الله خلق النساء لقضاء شهوة الرجال فهن أزكى لهم وأطيب، ولكن قوم لوط أصروا على الدخول، ولم يجد لوط من بينهم رجلاً عاقلاً يبين لهم ما هم فيه من الخطأ وأحس لوط بضعفه أمام هؤلاء القوم، فقال: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود:80].
وعندئذ كشف الضيوف عن حقيقتهم، وأخبروا لوطًا بأنهم ليسوا بشرًا وإنما هم ملائكة من السماء جاءوا لتعذيب هؤلاء القوم الفاسقين، وما هي إلا لحظات حتى اقتحم قوم لوط البيت على الملائكة فأشار أحد الملائكة، بيده ناحيتهم ففقد القوم أبصارهم وراحوا يتخبطون بين الجدران، ثم طلبت الملائكة من لوط أن يرحل مع أهله عندما يقبل الليل لأن العذاب سينزل على قومه في الصباح، ونصحوه ألا يلتفت هو ولا أحد من أهله خلفهم عندما ينزل العذاب حتى لا يصيبهم.
وفي الليل خرج لوط وابنتاه وتركوا القرية، وما إن غادروها حتى انشق الصباح فأرسل الله العذاب الشديد على قرية سدوم، فاهتزت القرية هزة عنيفة وتزلزلت الأرض، واقتلع مَلَكٌ بطرف جناحه القرية بما فيها وارتفع بها حتى سمع أهل السماء نباح كلابها ثم انقلبت القرية رأسًا على عقب، وجعل الله عاليها سافلها وأمطر عليهم من السماء حجارة ملتهبة تحرقهم ، وأحاط بهم دخان خانق يشوي وجوههم وأجسامهم.
قال تعالى: {فلما جاءنا أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود . مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} [هود:82-83] ونجَّى الله لوطاً وابنتيه برحمة منه سبحانه، لأنهم حفظوا العهد، وشكروا النعمة وعبدوا الله الواحد الأحد وكانوا خير مثال للعفة والطهارة، وأصبحت قرية سدوم عبرة وعظة لكل الأجيال القادمة، قال تعالى: { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } [الذاريات:37